تساؤلات عديدة كان ولا يزال العديد من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يطرحها، سواء ممن مَنّ الله عليهم بأداء فريضة الحج أو ممن ينتظرون أداءها، تلك التساؤلات تتمثل بما بات يسمى فقه التيسير ورفع الحرج والمشقة عن الحاج، نظرًا لازدياد أعداد الحجاج عامًا بعد عام، وكثرة الازدحام والاختناقات المرورية أثناء التنقل بين المشاعر، فهل مثل هذه العوامل تدفع علماء وفقهاء الأمة بأن يعيدوا الاجتهاد في قضايا عديدة تقبل إعادة النظر فيها ضمن ضوابط شرعية؟. وأهم تلك الأسئلة يدور حول حكم مبيت هؤلاء الحجاج خارج المشاعر المقدسة من باب رفع الحرج والمشقة عنهم، ومن باب عدم قدرتهم على الوصول إلى داخل المشاعر للازدحام الكبير، والشكوى من تزايد تكاليف الحج داخل المخيمات في هذه المشاعر.. تلك التساؤلات قامت “الرسالة” بطرحها على طاولة العديد من العلماء والدعاة، رامية الكرة في ملعبهم من أجل الحكم والنظر في هذا النوع من القضايا. الشيخ الدكتور عبدالله المنيع عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية يبتدئ حديثه بالترخيص لحجاج بيت الله الحرام في المبيت خارج حدود مشعر منى؛ مبررًا ذلك بعدم قدرة الحجاج وعجزهم عن المبيت داخل مشعر منى حيث تسقط صفة الوجوب، إلاّ أنّ المنيع تحفّظ على القول بجواز المبيت خارج مشعر مزدلفة قائلًا: “هذا الافتراض خاطئ من أنّهم لا يستطيعون المبيت داخل مشعر مزدلفة، لكنّهم يمكن أن يقولوا أنّهم لا يستطيعون المبيت بها نظرًا لكثرة الازدحام، وأنّهم عجزوا عن الوصول إلى مزدلفة، فهنا لا إشكال في ذلك”. اتساع في الأمر أما الداعية الشيخ جمال قطب، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقًا فإنّه يؤكد أنّ هناك اتساعًا في مثل هذا الأمر، مشيرًا إلى أنّه إذا ضاق الأمر اتسع، بمعنى أنّه كلما ازدحم الناس بعدد غير محدود في مكان محدود جاز لهم أنّ يتجاوزا المكان، مبررًا ذلك أنّ الحفاظ على النفس البشرية مقدّم على سائر المقاصد، وعلى أثر ذلك فإنّ قطب لا يرى أي مانع من بيات أهل الموسم خارج هذه الحدود ولا شيء عليهم، وهذه القاعدة على حد قوله تطبّق في كل مناسك الحج عدا موقف عرفة لأنّه هو الركن الرئيس والمنصوص عليه بالضرورة من الكتاب والسنة. حكمها حكم المساجد وعلى الصعيد نفسه يرى الشيخ عبدالله بن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية والمستشار بالديوان الملكي أنّ المشاعر المقدسة تأخذ في حكمها مثل ما تأخذ المساجد، فإذا ازدحمت المشاعر بالحجاج فيجوز لهم أن يمكثوا حولها، منوهًا إلى أنّه متى ما ضاقت المشاعر بكثرة الحجاج فإنّ حكمها حكم المساجد إذا امتلأت بالمصلين فإنّ الناس يعمدون للصلاة بالساحات والحدائق والمرافق التي تحيط بها، موضحًا أنّ هذه الحال تنطبق على مشعري مزدلفة ومنى، إلاّ عرفات فإنّه يستلزم على الحاج المرور والوقوف به لأنّه يعدّ من أركان الحج. اللائمة على الخدمات الإدارية من جهته فإنّ الدكتور سعود بن عبدالله الفنيسان عميد كلية الشريعة بالرياض سابقًا يلقي باللائمة على الخدمات الإدارية المتوفرة في المشاعر المقدسة قائلًا: “إنّ الخدمات الإدارية في المشاعر يجب أن تكون متكاملة فلا بد من تلافي الأخطاء من عام لآخر، حيث إنّ هناك أخطاء إدارية مرورية تسهم في تعزيز هذه الظاهرة”. ويعد الفنيسان أنّ المبيت في مزدلفة من الناحية الشرعية أكثر ما قيل فيه بأنّه من واجبات الحج، وعليه فإنّ الحاج إذا لم يقم بالمبيت داخل حدود مزدلفة يترتب عليه فدية تتمثل في التخيير بين إحدى ثلاثة بحسب القدرة، إما ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ويوضح الفنيسان أنّ الحاج إذا تعذّر وصوله إلى منى فإنّه يسقط عنه المبيت بها لكن الرجم لا يسقط عنه فهو بإمكانه أن يجمعها في يوم واحد ويرجم من خلاله عن الليالي التي كان من المقرر أن يبيتها في منى، وينوهّ الفنيسان إلى أنّ الحاج إذا تعذّر له الوصول إلى عرفة فإنّ حجه لا يصح، مشددًا على أنّ حاله لا تنطبق على حال مزدلفة ومنى لأنّه يعدّ أحد أسس الحج. إلاّ أنّ الفنيسان يؤكدّ أنّ من أكثر المشكلات التي يعاني منها موسم الحج هي قضية تفويج الحجاج والازدحام، ولا تتعلق بجهل الحجاج في الفقه الشرعي للحج، مشيرًا إلى أنّ قضية تصعيد ونزول الحجاج مرهونة ومرتبطة جميعها في يد الإدارة المرورية المسؤولة عن تنظيم الحركة داخل المشاعر، فمن المفترض -بحسب الفنيسان- ألا يتولى العسكريون مثل هذا الأمر مباشرة، مقترحًا أن يتم استبدالهم بموظفين مدنيين كفرق الجوالة والكشافة ليتم الاستعانة بهم في تأدية المهام المنوطة، فهم -بحسب الفنيسان- قادرون على أن يخدموا الحجاج أكثر من العسكريين أنفسهم. تعذر الوصول من جانبه يوضح الدكتور صفوت حجازي الداعية الإسلامي أنّ هناك رخصة شرعية قد صدرت من هيئتي الإفتاء بالسعودية ومصر تفيد بجواز المكوث خارج حدود المشاعر المقدسة إذا تعذّر على الحاج الوصول إليها، منوهًا إلى أنّه شخصيًا قضى ليلة مزدلفة موسم الحج الماضي خارج حدودها لأنّه تعذّر عليه دخولها. إلاّّ أنّ حجازي يؤكدّ أنّ مشعر عرفات لا يأخذ نفس الحكم الذي يأخذه مشعري مزدلفة ومنى، لأنّ البقاء فيه يعدّ ركنًا من أركان الحج وليس عليه فدو إذا لم يمكث به، ويشير حجازي إلى أنّ الحاج إذا كان يعاني من الازدحام الشديد ولم يستطع الوصول إلى منى أو مزدلفة فعندها يجوز له أن يمكث حيث انتهى إليه المسار أو انتهى فيه محط الرحل، ولا شيء عليه، أما إذا لم يذهب من أصله ومكث في مكان سكنه فهنا يترتب عليه فدو. تكاليف الحملات أما الشيخ الدكتور محمد موسى الشريف الداعية الإسلامي فيرى أنّه من لم يكن عنده المال الكافي ولا يستطيع أن يبيت في منى بسبب تكاليف الحملات الباهظة، وبدعوى الازدحام الشديد فله أن يبيت خارج حدودها، لكن القوي والقادر على البيات على الرصيف والافتراش بالأرض فهذا لا يجوز له أن يبيت خارج حدودها فهي مسألة على حد الشريف مرتبطة بالقدرة والاستطاعة. ويوضح الشريف أنّ الحاج إذا أتى إلى منى في منتصف الليل ومكث فيها إلى الفجر فإنّ هذا يجزئ المبيت، أما إذا مرّ بمزدلفة وخصوصًا بعد منتصف الليل فهذا يجزئ وليس عليه دم، في حين أنّه إذا فرّط في دخولها ولم يقم بالمرور فيها فإنّه يترتب عليه دم. التكدّس في مكان واحد وفي السياق نفسه يعد الأستاذ الدكتور عبدالفتاح إدريس رئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر أنّ الأماكن تتسع وبشكل كاف لحجاج بيت الله الحرام في المشاعر المقدسة، إلاّ أنّ كثيرًا من الناس يسيء استخدام هذه الأماكن في المشاعر، مشيرًا إلى أنّ بعضهم يغدون هذه المشاعر ويتكدسون في مكان واحد فيضيق هذا المكان عن اتساع الآخرين، وبعضهم يرون خصوصية أماكن دون أماكن أخرى ولهذا تتسبب هذه الظاهرة في الزحام الشديد ويضيق عن استيعاب الآخرين، مؤكدًا أنّ السبب يعود في ذلك لعدم فهم فقه مناسك الحج. ويشدد إدريس على أنّ الوقوف في مشعر عرفة لا بد منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الوقوف خارجه، حيث إنّ الوقوف به يتسع عدد الحجاج المقرر لهم من قبل الحكومة السعودية وزيادة عنهم أيضًا، وحول المبيت في مشعر مزدلفة، يرى إدريس أنّه لو قدّر أنّ مزدلفة ضاقت بالحجاج وهي لا يمكن أن تضيق بهم -على حد تعبيره- حتى لو كان عدد الحجاج أكبر من العدد المقدر له، فهذا واجب وتركه يجبر بدم على رأي البعض من الفقهاء، مضيفًا أنّ هناك رأيًا آخر يرى أنّ المكوث ولو لبعض من الليل يجزئ فهو في سعة أن ينفر منها بعد منتصف الليل. ويعزو إدريس سبب الازدحام إلى أنّ كثيرًا من الحجاج يسيرون على أقدامهم أثناء انتقالهم من المشاعر مما يعوّق حركة المرور، حيث إنّ المسئولين بدأوا يدركون ظاهرة الازدحام، وذلك من خلال العمل على تسيير قطارات سريعة ستعمل على القضاء على تلك الظاهرة. وينتقل إدريس للحديث عن المبيت في منى قائلًا إنّ المبيت في منى يعد سُنة عند البعض من الفقهاء والبعض الآخر يقول بأنّه واجب، فلو بات بها حتى منتصف الليل هذا يجزئ حتى لو انتقل إلى مكان آخر، حيث إنّه لو كان بمنى وانتقل إلى مكان آخر ثم عاد إليها مرة أخرى قبل الزوال من أجل الرمي فهذا لا شيء عليه. خلاف طويل حول المسألة من جهته يؤكد الشيخ أشرف الفيل الداعية الإسلامي أنّ الفقهاء مجمعون على أنّه لا بد من المبيت بالمزدلفة ليلة النحر، وكذا بمنى أيام التشريق. وقالوا إنّه من ترك المبيت لزمه دم سواء كان ذلك عمدًا أم ناسيًا أو مخطئًا، ويستشهد الفيل بقول ابن قدامة في المغني: “وجملة ذلك أنّ المبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم سواءً تركه عمدًا أو خطًأ عالمًا أم جاهلًا لأنّه ترك نسكًا”. ويضيف الفيل أنّ الشيخ ابن باز يرى أن ذلك الأمر إن كان اضطرارًا فلا بأس به ولا يلزمه شيء. ويوضح الفيل في حديثه قائلًا: “الذي أميل إليه هو ما ذهب إليه العلامة ابن باز رحمه الله تعالى وذلك لشدة الزحام، ولخشية وقوع الضرر ولأنّ النبي صلي الله عليه وسلم رخّص للنساء بالمبيت بمكة وكذا للضعفاء”، منوهًا إلى أنّ الله تعالى قال في كتابه: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) لذا فإنّه لا بأس بالمبيت خارج حدود المشاعر لمن كان غير قادر على الوصول إلى المشاعر سواء بسبب الزحام أو خشية الضرر أو بسبب الضعف، وكبر السن، أو المرض، أو من كان معه امرأة كل ذلك لا بأس عليه من وجهة نظر الداعية الفيل، وذلك لأنّ الأركان المتفق عليها بين الفقهاء أربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي، مشيرًا إلى ضرورة ملاحظة أنّ هناك اختلافًا بين الفقهاء فذهب بعضهم إلى القول بأنّ أركان الحج ركنان، الإحرام، والوقوف بعرفة وهو خلاف طويل بين أهل الفقه، خلاصته أو الذي نخلص منه إلى أنّ كل زمان ومكان له ظروفه المحيطة به، ولأنّ الاتفاق أيضًا على أنّ المبيت بالمشاعر إنّما هو من الواجبات وليس من الأركان التي تضر بصحة الحج، وعلى أثر ذلك فإنّ الداعية الفيل يذهب إلى رأي من قال بجواز المبيت خارج المشاعر لعذر.