علاقة حميمية تزرعها إيزابيل اللندي بينك وبين شخوص روايتها الأخيرة “الجزيرة تحت البحر”، ترجمة صالح علماني 2010 عن دار دال، فهذه الروائية كما قرأناها في “بيت الأرواح”، و“زورو” قادرة بإتقان على حشد التفاصيل الدقيقة في انسيابية وحبكة سردية رائعة، فالرواية التي تدور أحداثها في سان دومانغ (جزيرة هاييتي)، حيث المستعمرة الفرنسية الإسبانية في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر (1870-1810)، ثم في نيو أورليانز بعد ثورة العبيد في الجزيرة التي تنتفض لتؤسس أول جمهورية سوداء مستقلة، فعبر بطلة الرواية زاريتيه (تيتي) وصوت الراوي العليم، نقرأ أحداثا صاخبة محتشدة التفاصيل، فهناك ألم وعشق ومغامرة وأساطير وشعوذة، رواية تستمد تفاصيلها من تاريخ الجزيرة حيث ذلك المزيج من الواقعية والواقعية السحرية. إذن تخرج اللندي هذه المرة من أمريكا اللاتينية لتكتب هذه الرواية التاريخية بعد بحوث قرأتها لمدة سنوات. زاريتيه عبدة خلاسية اشتراها فالموران -أحد أكبر مالكي الأراضي في المستعمرة- من عشيقته فيوليت وهي ابنة تسع سنوات، وخلال أربعين سنة هي أحداث الرواية، تبحث زاريتيه عن أجنحة الحرية المقصوصة، ففي المستعمرة الغنية بمزارع القصب والبن هناك العبيد الذين تشحنهم السفن من إفريقيا ليباعوا للبيض السادة، يعملون في المزارع تحت حراسة مشددة دون كلل، وإذا حدث أن مرض أحدهم فإنه يلقى إلى الموت ليستبدل بآخر أكثر قوة وحيوية، تختفي القيم الإنسانية، “لا وجود لمصطلحات وسطية، فعند تقبل مفهوم العبودية تصبح المعاملة شيئًا ثانويًّا”، ويسيطر السادة البيض بقبضة المستعمر على تلك العضلات المفتولة السوداء، ومن ناحية اخرى كما هو الحال مع زاريتيه تقوم النساء بإرضاء أسيادهن رهبة من سياط الجلد، فلا قانون يجرم حالات الزنى والاغتصاب بين السادة والعبيد، كما أنه من العار على السادة الاعتراف بأبنائهم الخلاسيين نتيجة تلك المزاوجات. وحالات القهر والاهانة والبؤس التي تسيطر على العبيد تولد رغبة مستعرة في الانعتاق، يلوذون هربًا برؤوس الجبال، يقطعون المستنقعات الخطرة بالتماسيح في عريهم وفي نزيف أقدامهم الدامية ومن ورائهم تطاردهم بنادق الحرس وسعار كلاب لا تتوانى في نهش من تصل إليه أنيابهم. تتزايد حالات الهرب ليحل الرعب في قلوب ملاك الأراضي فتكون الانتفاضة نتيجة محتومة، ففي ذات الوقت الذي يشنق فيه لويس السادس عشر في فرنسا يعلق السادة البيض في مشانق عبيدهم الذين يجتاحون الجزيرة، ولا تجدي كل محاولات نابليون لإعادة إخضاعها، فهناك جنون الحرية ولدغات البعوض التي تحيل الجنود إلى أجساد منهوكة ومحمومة، هنا تقع زاريتيه في منعطف الاختيار بين الحرية التي صارت في أيدي السود وبين مرافقة سيدها الهارب، إنها تختار عاطفة الأمومة لترافق ابنتها وابن زوجها الذي ربته على وعد مؤجل مكتوب بحريتها. من أعالي الجبال حيث معسكرات العبيد تفجرت الثورة، تحركها أرواح (اللوا) التي تسكنهم، وتمدهم أيضًا عشرة آلاف روح تنهض من الجزيرة تحت البحر (غينيا) لتقف مساندة بكل شجاعة وبأس منتشية على قرع طبول الحرب، تقول الرواية: العالم يهتز، الايقاع يولد في الجزيرة تحت البحر، يهز الأرض، يخترقني كوميض برق ويمضي إلى السماء حاملًا أحزاني كي يمضغها بابا بوندي ويبتلعها ويخلقني نظيفة من الهموم وسعيدة، الطبول تهزم الخوف، والطبول هي إرث أمي، إنها قوة غينيا التي في دمي، الطبول مقدسة، من خلالها تتكلم اللوات. تنتصر الرواية للعدالة وللحرية وتنتصر أيضًا للمرأة، فزاريتيه التي تمتلك حريتها وحرية ابنتها ترفض رعاية سيدها المتوسل إليها، تغادره مريضًا ومشلولًا وهرمًا، تتركه في بؤسه ووحدته ينهشه المرض، «(لا أستطيع ذلك يا مسيو)، نهضت واقفة بتردد تهزها ضربات قلبها، وقبل أن تخرج تركت على سرير فالموران شحنة الحقد غير المجدية، لأنها لم تعد راغبة في جرجرتها معها، وانسحبت بصمت من ذلك البيت عبر بوابة الخدم”.