من مكةالمكرمة.. من الولادة بجبل السبع البنات والرضاعة من زمزم.. من الصفا والمطاف.. من حارة أجياد المرتع إلى ذروة العنفوان بحارة المسفلة... من الفلاح (بالشبيكة) الواجهة.. إلى جامعة الرياض.. إلى جامعة (كورنيل) بأمريكا، من دائرة المعارف إلى أدب الجامعات وبنود المصارف، من جبال البلد الحرام إلى عالَم الجيولوجيا والإعلام.. من الجبال الأعالي إلى صاحب المعالي.. من كُدَى إلى كَدَاء.. من كان يذكّرنا بقول سيدنا حسان بن ثابت في فتح مكة: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدًا يقول الحق إن نفع البلاء لنا في كل يوم من معدِّ سباب أو قتال أو هجاء إلى أن يقول: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء ها هو ابن مكة يخرج من أسافلها إلى أعاليها محمولًا على الأكتاف إلى مقابر المعلاة بجاور السيدة خديجة أم المؤمنين والمؤمنات. من هنا.. من مكة.. نبغ ابن مكة وسار.. منذ أيام المسفلة الخوالي حينما كانت أجواؤها تصور التفاؤل في صورة مجسمة ملموسة. حينما كان الجِد مثابرًا في سيره إلى أبعد الخطى، حينما كانت الأعين تسبق الأقدام إلى العلا. حينما كان الأب بتربيته وتوجيهه، والأم بحنوّها ورعايتها، حينما كان مجتمع الكُتَّاب والمدرسة والحارة يقوم بالتعليم والتربية القويمة في آنٍ، ومما كان في غضون ذلك الاستفادة من مهارات تحضير البعثات وإعدادات المعهد العلمي السعودي، وما بعد ذلك من الوسائل التي أهّلتْ وأكسبتْ وذللتْ للفكر والاختيار خلاصة النتاج والحصاد. ولم تكن (البُسِكليتَة) التي كان يركبها ابن مكة بنشوى الفرح هي المساند الأول في قطع المسافة من المسفلة إلى مدرسة الفلاح بالشبيكة، ولم يكن الريال مصروف المدرسة أو ركوب سيارة (الأَنِيسَة) التي كان شكلها وصوتها يأخذان بمجامع الألباب، وتبدو فيها هيئة الجلوس بالإعجاب..؟ أو درع الطالب المثالي الذي ناله في مرحلة الثانوية بفلاح مكة. أو تلك المكافأة ب(خمسة ريالات فضة) التي كانت تدفع للمتفوقين الأوائل، وكان ممن نالها الطالب أحمد حسن فتيحي بترتيبه الخامس في المرحلة الابتدائية بفلاح جدة.. فتيحي ليس من زملاء ابن مكة النابغ في الدراسة، بل كان من زملائه في فلاح مكة: السيد أمين عطاس، أحمد شافعي، بكر أحمد خضر بغدادي، غازي جميل بغدادي، حسين عبدالله محضر، وزميل لاحق. أما أحمد فتيحي فهو شاهد من شواهد تلك المحركات والمشجِّعات والمعونات والإمدادات المادية والمعنوية التي كانت تتدفق بصدقٍ من هِمَم وعزائم أولئك الرجال والأساتذة الكرام. نعم لم يكن كل ذلك السبب والدافع الأول في نهوضه، بل كانت النفس التي بين جنبيه تتفاءل وتتلمس الفلاح من مدارس الفلاح، الفلاح الذي تفاءل به مؤسس المدارس الحاج محمد علي زينل رضا رحمه الله. وتلك هي من أهم المحركات وأقواها الجارية بعجلتها التي كانت توجه الطلبة إلى المسار الصحيح والخيار الصواب، باهتمام وتتبع الأساتذة الأفاضل الذين كانوا يحرقون (فتائل) أنفسهم وأفكارهم ليستضيء بأنوارها وأنوارهم تلامذتهم وأبناؤهم وأبناء قرابتهم الأقارب والأباعد. أخصّ منهم بالذكر قيّم مدارس الفلاح المربي الفاضل السيد إسحاق عزوز -رحمه الله- الذي كان له الفضل الجزيل في توجيه كوكبة من خريجي مدارس الفلاح علميًّا وأدبيًّا وفكريًّا. ومنهم ابن مكة هذا.. الذي استبدل بعض توجهه وتخصصه الجيولوجي بتيسير وتقريب نصوص السيرة النبوية، المعطرة بصاحبها عليه أفضل الصلاة والتسليم، بالدعوة إلى محبته ومحبة زوجه الكبرى السيدة خديجة، وزوجه الحبيبة السيدة عائشة وبضعته السيدة فاطمة رضي الله عنهن، ومن نسل من آل بيته الأطهار. بهذا ترك أو تحوّل ابن مكة من التنقيب وراء قسوة الأحجار إلى لِين الحديث ولطيفه بسيرة سيدنا المختار. نعم ترك الحجارة رغم علاقته برابط ولادته بجبل السبع البنات الجزء الجنوبي من جبل خندمة بأجياد الكبير. ترك ذلك ليتجه إلى الاهتمام بقضايا الفكر الإسلامي بالديانات وحوار الحضارات، بالإعلام والتعليم والتربية، بالأدب والفلك والرياضة، بالاقتصاد والبنوك والمصارف الإسلامية، بقضايا فلسطين وإفريقيا، بشؤون أبناء الوطن، وهموم الأقليات المسلمة في العالم، بقضايا العولمة ومستجدات التكنولوجيا العصرية، بالشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية بالزراعة والبيئة والطبيعة، وفي غضون ذلك كله اتصاله وتواصله مع ملوك وأمراء آل سعود في مجالسهم ومحافلهم وفي مناسبات الوطن، حتى بعد تركه كراسي المناصب الحكومية. وفي دلة البركة اشتد غرامه بالأعمال الخيرية الواسعة داخل وخارج المملكة وعلاقاته الإنسانية بالشخصيات على مختلف الأوضاع والمستويات،.. مجالات عدة يطول عرضها كان فيها البارز الرائد. ولعل كل هذا أو جلّه بعض ما كان يهتف به موجهه الروحي السيد إسحاق عزوز رحمه اللّه ومما كان من نتاج تخطيط ورسم مناهج مدارس الفلاح في بدايات منابرها التي انطلقت منها أصواتّ إذاعية أشعلت هواية أبناء ذلك الجيل حتى استعد لاستقبال أثير الصحافة والثقافة والمعرفة العامة، إلى التفوق في الإلقاء إلى نيل شهادة الثانوية العامة التي كانت تعادل الدكتوراه.. وقد سار تلميذ الفلاح.. بجدٍ واجتهاد، بنتائج وعواقب كلها فلاح، بتحمل المسؤولية، بخطوات راسخة في مختلف مراحلها وأوضاعها التعليمية والتربوية. هكذا أو بمثل هذا استلهم مدرسو الفلاح.. الفلاح، ليخرَّجوا للجيل تلامذة مميزين يُشار إليهم ببنان الإشادة والتمكين، وكان بروز خرّيجي الفلاح بروزًا فريدًا قلّ أن يوجد له نظير ، وهب أن هناك مقارنة.. إلا أن الفرق كان يظهر حتى في محتويات (الكَشكُول) وفي نوعية العلم المحصول، وما يُلتمس من معاونة الزملاء المخلصين والأقران الصادقين. أما زميله اللاحق في الدراسة بجامعة الرياض والمؤازر له في تطوير منهجية الصحبة وعلاقة الأخوة حتى أضحى له (الأخ الذي لم تلده أمه)؛، بل أدى ذلك إلى تطور وتقوية هذه العلاقة الحميمة بالمصاهرة، وتعزيزها بالمجاورة، حيث اقترن بشقيقته السيدة القديرة مريم بنت عبدالله كامل أم أولاده لاحقًا: ياسر وعبدالله وعبدالعزيز وفاطمة وغالية وسارة. إنّه الشيخ صالح عبدالله كامل، الذي كان له المساند الحثيث في السراء والضراء حتى اللحظة الأخيرة من حياته.. كان له الدليل والعون الباذل قلّ أن يوجد له مثيل في هذه الآونة. وقد كان لابن مكة هذا.. فضل الصحبة والمشاركة في إنشاء كيان دلة البركة وعلاقات (اقرأ الخيرية والإنسانية). فكان الأساس، والغراس الأسري الذي نسج ابن مكة وزوجه في بيت الزوجية ثوبًا متعدد الألوان ليرتديه لاحقًا معتليًا عرش الإعلام، وينقشه بنقوشٍ هي الحمد والثناء على تربية الآباء. ولكن ..! منذ ذلك الزمن الذي كان فيه النبوغ والخروج من حارة المسفلة وحتى آخر لحظة لا زالت الآثار المتبقية بحارة المسفلة تشهد بما كان في مواطن الصِّبا وعنفوان الشباب من وثباتٍ وذكرياتٍ لا تُنسى.. ذكريات حلقات العلم بحصوات المسجد الحرام.. وروّادها: السيد علوي مالكي والسيد أمين كتبي والشيخ حسن سعيد يماني والشيخ حسن مشّاط والشيخ يحيى أمان والشيخ محمد نور سيف والشيخ محمد العربي التباني. وغيرهم من الطبقة الأخيرة من علماء القرن الرابع عشر الهجري. ذكريات الكتاتيب والمدرسة بغرف (الفلكة) وساحات (الفُسْحَة).. بألعاب (الكرة والبِرْبِر وتخطيط العنقلة وتدبير المقالب البريئة) بالوقوف تحت أشرعة المقاهي بعد (صرَفة) المدارس، ثم بتجمعات (البِشك وجمع (الباي) للخرجات إلى البِرك أو الجلوس في (البخشات)، ولقضاء أوقات القِيلات والعصريات في المجالس والمقاعد وروشان البيوت. ذكريات البيع المقترن بالترفيه في أزقة وبرحات الحارة.. حينما كان يبيع لأقرانه البليلة بالطًّرشي والمخلل مع المنقوش، وفي غضون ذلك لعب البرجون والكَبَت والكُبُوش. ذكريات بدايات العمل: حينما كان يحمل علف الحشيش على ظهور الحمير ويسوقها من زقاق إلى زقاق إلى البيوت والدكاكين.. ذكريات والده حينما كان يعمل في الفرن مع الشيخ عبدالله كعكي بحوش الأشراف في حارة أجياد. ذكريات الأندية الرياضية: الوطن والعلمين والوحدة في ساحة إسلام بمكة وملعب الصبان بجدة. ذكريات عبرت وسارت كان منشؤها وأساسها من هنا.. من أزقة مكة بتربتها الندية. وذكريات أخرى تشهد له وزملاؤه فيها حضوره المتعاقد غرامًا بقاعات الدراسة والتدريس بجامعة الرياض، ثم إدارة وكالة المعارف، ثم وكالة جامعة الملك عبدالعزيز، ثم مديرًا لها، ثم عودة أخرى إلى قاعاتها للتدريس وإلقاء المحاضرات في مختلف المجالات.. كما يشهد له معاونوه في ذلك ومنهم رفيق إدارته معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي يشغل الآن منصب اليماني الوزاري السابق. وعلى رغم تجدد صروح التعليم العالي لا زالت جامعة الرياض جامعة الملك سعود حاليًا لا زالت ترجِّع لابن مكة حتى اللحظة الأخيرة من حياته ذكرى تلك المساحات الجغرافية الخصبة التي أقام فيها بأرض نجد رغم قِصر المكوث، ولم يكن ابن مكة يؤثِر ما يبعده عن مكة وحارة أجياد مسقط رأسه، وحارة المسفلة مرتع صباه وريعان شبابه وابتداء تكوين شخصيته..، بل قد ظل وفيًّا بأم القرى.. فهي في قلبه أينما سار وارتحل.. تصاحبه علومه ومعارفه التي لم تشغله أو تُنسه أعلام حارته الأخيرة المسفلة ومعالمها، وما استودعه فيها من ثروة أبويه الروحية والإنسانية التي أهّلَته وتابعته بالحثَّ المعنوي والدعم المادي، بل ولاحقته من قبل بصادق الدعاء مناصِرة ومؤازِرة إلى قبيل انتقاله إلى الديار الآخرة. واليوم.. وبعد تلك الحياة المجلجلة بأعمال جمة وشتى.. بعد تلك التنقلات والأسفار والرحلات.. وبعد أن تقدم به الزمن لم يزل أولًا وأخيرًا هو: (ولد من مكة) ينظر إلى كل قرين له (مشرَّد، بلا خطيئة) يلحظه بعين مشفقة، جاعلًا من (اليد السُّفلى) يدًا عُليا حانية وبلسمًا على (جراح البحر) ومقدمًا من وحي جبل السبع البنات أخلاق وصفات (أم المؤمنين خديجة بنت خويلد .. سيدة في قلب المصطفى) ومؤكدًا ببضعة النبي (إنها فاطمة الزهراء) وواصفًا (امرأة في الظلال)، بل خرج من مكة إلى أجزاء الوطن لينصف (فتاة من حائل)، بل إلى خارج الوطن سائلا: (لماذا إفريقيا..؟) ومخبرًا عن عاصمة الصين الشعبية بقوله: (قادم من بكين والإسلام بخير). وها هو اليوم يرحل إلى عالم آخر بيقين قوله: (لسنا وحدنا في هذا الكون) وبدعوة سابقة إلى (التأمين بالدعاء) ها هو قد رحل وترك الأمة في أوضاع (المعادلة الحرجة) بعيدًا عن عمله الأول ((الجيولوجيا الاقتصادية)، بل مذكّرًا ب(علموا أولادكم محبة رسول الله) و(علموا أولادكم محبة آل بيت النبي) والعمل الأخير الذي مات عنه: (علموا أولادكم حب القرآن الكريم) ( 1).. رحل وترك قلمه الأخضر في إجراء الخير يندبه ويبكيه.. يبكيه مكتبه ورجاله، داره وجاره، رحله ورحاله.. يبكيه شهود عيان يهتفون بجليل أعماله وحسن سيرته في المجالس والمحافل، وفي مقدمتهم: الأسر المعوزة والأرامل والأيتام والفقراء والمساكين وطالبو الشفاعات والحاجات. فرحم الله الدكتور محمد عبدالله عبده يماني رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع سيد المحبين، اللهم اختم لنا بأحسن ختام، إذا دنا الانصرام وحان حين الحِمام وزاد رشح الجبين. ------------------ (1) ما بين الأقواس (ولد من مكة، مشرَّد، بلا خطيئة، اليد السُّفلى، جراح البحر، أم المؤمنين خديجة بنت خويلد.. سيدة في قلب المصطفى، إنها فاطمة الزهراء، امرأة في الظلال، فتاة من حائل، لماذا إفريقيا..؟، قادم من بكين والإسلام بخير، لسنا وحدنا في هذا الكون، التأمين بالدعاء، المعادلة الحرجة، الجيولوجيا الاقتصادية، علموا أولادكم محبة رسول الله، علموا أولادكم محبة آل بيت النبي، علموا أولادكم حب القرآن الكريم (تحت الطبع) عناوين كتب للدكتور. وقد، بلغ عدد مؤلفاته خمسًا وثلاثين كتابًا في علوم وقضايا مختلفة.