حينما يترك المثقف مبدأ « الحوار « و « النقاش « فإنه بالمقابل يترك عالم الثقافة . وعندما يلتزم بالنقاش وعرض الأفكار وتبادل الحجج وابتكار المفاهيم والمقولات فإنه وقتها يمارس نشاطاً ثقافياً بامتياز . عندما ندرك هذه البديهة سوف يكون من السهل علينا أن نميز بين المثقف وغيره , لقد باتت مسألة ( القطيعة ) الحوارية أمراً شائعاً بين معتنقي الأيديولوجيات في الداخل المحلي , وهذه القطيعة قد نفهمها عند العوام وأصحاب النظرات الضيقة والمبتسرة تجاه أنفسهم قبل غيرهم , فقد نعذر هؤلاء على عدم التزامهم بمنطق الحوار لأنهم لا يملكون الأدوات الحوارية وفاقد الشيء لا يعطيه , ولكن ما لا يمكن فهمه ولا استيعابه هو نفور الكثير من المثقفين من الحوار .. فالمثقف الذي يعتنق نظرة تراثية أو سلفية تجده يأنف من التحاور مع ذوي النظرات اليسارية أو حتى المدعية للحياد , والنقيض كذلك صحيح , فالكثير من مدعي التقدمية والليبرالية وإلى آخر هذه الشعارات الرنانة يكتفون بالتنظير والتفرج من بعيد ولكن لا يغمسون أقدامهم في طينة الواقع . إنهم يكترثون بالتجريد لوحده , ولا يكترثون بعدها هل يطبقون ما يقولونه أم لا . يمكن قراءة الكثير من الكتابات الشاطحة التي تدعو مثلاً إلى تكميم الأفواه ومصادرة الآراء المختلفة , نجد مثلاً الكاتب عبدالله بن بجاد يصف الإخوان المسلمين وامتداداتهم بالسعودية بأنهم « قرامطة « جدد ( عكاظ 18 – 11 – 2010 ) وهذا الوصف ليس غير أدلجة مبطنة في مقالة مملوءة بالانحيازات اللاواقعية ضد حركة اجتماعية وفكرية وسياسية يمتد تاريخها لأكثر من نصف قرن من الزمان , ولن أقول أن النقد هنا هو نقد بناء فحتى أكثر الباحثين الغربيين كراهية للجماعات الإسلامية لن يقع في مطب تشبيه حركة معاصرة كالإخوان المسلمين بحركة تاريخية سالفة ذات ظروف إنسانية مغايرة كالحركة القرمطية ! فلا الإخوان اختطفوا الحجر الأسود , ولا هم من أصحاب الزراعة ولا الحرف اليدوية , وليس لهم ارتباط بقبائل معينة , فضلاً عن كون الدولة القرمطية هي ذات طابع سياسي مختلف جذرياً عن برنامج الاخوان المسلمين الحالي , وبالتالي لا وجاهة لهذا التشبيه ! وعلى نفس الخط يقوم فارس بن حزام بتضخيم دور تنظيم القاعدة حتى يتحول هذا التنظيم الخرافي إلى اخطبوط هائل تحيط أذرعته بكرتنا الأرضية ! وبالرغم من ضحالة مبادئ تنظيم القاعدة إلا أنه لا يمكن تصديق أنه بهذه القوة الخرافية إلا عندما يسلم المرء رأسه للإعلام العشوائي خاصة وأن هذا التنظيم قد قصم ظهره منذ سنوات .. ويكتب فارس بن حزام في مقالته الأخيرة « والمشهد في المشاعر المقدسة، بعشرات آلاف الجنود والأسلحة والآليات ومثلهم المخبرون، يعزز النظرة القائلة بخطر يحدق بأهم الأيام التي تعيشها السعودية سنوياً « جريدة الرياض 16 – 11 – 2010 . والغريب أن بن حزام يتصور أن هذه الأعداد من الجنود هي فقط لمحاربة القاعدة ! مع أن هذا الترتيب الأمني والعسكري هو مسألة روتينية وبديهية لحفظ الأمن سواء ضد القاعدة أو غيرها من الجهات الأخرى . وتفسير التكثيف الأمني بهذه الطريقة الكاريكاتيرية له ما له من دوافع أيديولوجية مبطنة , فالقاعدة في ذهن ابن حزام تختلف عن القاعدة الموجودة في الواقع الخارجي. ومثل هذين فإن مثقفين من الطرف الآخر , وأخص بالذكر « مثقفا «ً كإبراهيم السكران , نجده لا يتجاوز في مقالاته وكتاباته مسألة التحريض على الأطراف الأخرى المخالفة لما يقوله « هو « وما ينتهجه « هو « . فالمشروع التغريبي في تخيلاته يمتد ويبتلع الأرض والبلاد والعباد , والمؤامرات تحاك من خلف الكواليس وفي داخل الأقبية وفوق السطوح , ويكفي أن يتأمل القارئ مفردات مقالاته التي تنضح بالاتهامات بالتغريب والعمالة وتخوين ضد كل من اتجه للنهل من ينابيع الثقافات الأجنبية والإنسانية , بل يمكن وضع ابراهيم السكران ومقالاته من نافلة ( تطورات المشروع التغريبي في السعودية ) و ( مآلات الخطاب المدني ) في قمة كتاب القطيعة مع الآخرين ونبذ شرعية الحوار الاستراتيجي مع الاخرين , وأما تعيس الحظ ممن سيسير على هدي كتاباته فلا بد وأن ينتهي به المآل إلى التحدث مع الجدران لوحدها . أما مقالته في تأبين محمد أركون فلم تكن سوى استغلال لثغرات منهجية عن أركون ( يعرفها صغار المطلعين بكتابات أركون ) تم توظيفها والسخرية منها بطريقة توهم القراء بأنها طريقة عبقرية في اصطياد الأخطاء , مع أن نزعة أركون الأيديولوجية يعرفها كل مطلع على نتاجه . وهذه الطريقة في القطيعة الحوارية سببها اختفاء نموذج المثقف المحاور , وعدم الرغبة في تقديم الأهداف العامة على حساب الأهداف الخاصة المتمثلة بتجييش الأتباع وحشد الناس للطواف حول الذات , والملاحظ أن هذه الطرق في الالتفاف على المواضيع هي أقصر الطرق نحو الشهرة نظراً لكثرة مدمني الطرح الأيديولوجي , أما الطرح ضمن منهجية محايدة وغير منحازة بطريقة متهورة لجهة أيديولوجية أو تاريخية أو سلفية فإنه طرح محكوم عليه بالموت في بيئة تمجد الصراع والقطيعة ولا تشجع على العمل الاستراتيجي المشترك . والأهم أن صراعات كهذه لن تثمر عن تطور حقيقي في مستوى الوعي الوطني والحقوقي , بقدر ما تؤدي للقطيعة كهدف أعلى , ومن ثم التشتت والتشرذم وغياب الحس الإنساني المشترك , وتقوية فئات معينة على حساب الفئات والشرائح الاجتماعية الواسعة . إن هذا يجعل من مثقف القطيعة الحوارية , مجرد مثقف توظيفي , ورقم معين في خانة محددة , لا يتجاوزها قيد أنملة . إنه كاتب يتم توقع كل ما يقوله مسبقاً , وليس لديه ما يضيفه على الإطلاق خاصة بعد أن يخط كلمته الأولى . [email protected]