ورحل أبو المرضى والمصابين، وأكبر الداعمين لمرضى السرطان. ولأنني إحدى هؤلاء، فقد شعرت أن فقدان مناصر بهذا الحجم هو أمر له تبعاته عليّ وعلى مشاعر كل مَن وقع في المعاناة مثلي، فقد كان معاليه رئيس الاتحاد الخليجي للسرطان، ورئيس مجلس إدارة جمعية الإيمان الخيرية لرعاية مرضى السرطان، وكان يحمل الهم هذا ويسعى إلى دعم القضية بكل ما أوتي من قدرة، ومن جهد.. ذلك هو جزء من قصة حياة رجل أياديه البيضاء تحتاج إلى مجلدات في كل مجال، من مناحي العطاء، والعمل المجتمعي. ولم أسعد بلقائه كما سعدت يوم عقد الدكتور عبدالرحيم قاري لقاء عن سرطان الثدي، وشاركت بقصتي، ثم تسلّمت درعًا قام -رحمة الله عليه- بتشريفنا بتسليمنا الدروع، وعندما مددت يدي لأخذ الدرع قال لي: بلّغي سلامي وامتناني للشيخ محمد حسين العمودي، على كل ما تقومون به.. لم ينسَ أن يشكر، أو أن يظهر تقديره للشيخ الذي يستثمر مع الله في مجال سرطان الثدي. ولذلك عندما بلغني الخبر، سقطت دموعي، ورآني ابني عبدالله فانزعج، فحكيتُ له مَن هو هذا الرمز الذي فقده جيل أبنائي، والقدوة التي لابد أن يدرسوها في مناهجهم.. الرجال في بلدي كثيرون، لكننا لا نعرف كيف نوثق، وكيف نتعلّم، وكيف نعلم أبناءنا أن في بلدهم رموزًا يحق لهم أن يفخروا بها، وأن يحذوا حذوها. هل عرفته من قديم؟ نعم.. ولذلك صباح اليوم التالي كان عندي تدريس لطالبات السنة السادسة، ذهبت وقلبي مثقل، وجلست، وبدأت الدرس بسؤال واحد وجهته لطالباتي: هل تعرفن الدكتور محمد عبده يماني؟ وهن جيل جديد وصغيرات، وبعضهن لا يعرفنه.. قلت لهن: لولا فضل الله، ثم فضل هذا الرجل ودعمه لما كنا نجلس الآن هذا اليوم هنا، ولما كان هناك كلية للطب بجامعتنا؛ ولأنه تاريخ لابد أن يدرسنه تمامًا مثل الدرس الذي سأعطيه لهن حكيتُ لهنّ كيف أكرمنا الله برجالات رسموا تاريخًا سيظل محفورًا في ذاكرة الزمن. والبداية كانت بصدور أمر ملكي من جلالة المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمة الله عليه- بإنشاء كلية للطب في جدة، وكان معالي الدكتور محمد عبده يماني مديرًا لجامعتنا -آنذاك- أي جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، فقام معاليه بطلب سعادة الدكتور عبدالله باسلامة، والذي كان يعمل في الرياض، وأوكل له مهمة تأسيس كلية الطب. وبفضل هؤلاء قلت لبناتي الطالبات نحن اليوم هنا، أنا خريجة أول دفعة منذ عام 1981م، وأنتن طالبات السنة السادسة ستتخرجن بمشيئة الله عام 2011م، وما بين هذين التاريخين أعوام هي تاريخ مضيء لرجالات من بلدي، رسموا فيها أحداثًا بماء الذهب؛ لتظل في ذاكرة التاريخ طوال حياة مَن هو موجود -أطال الله في عمرهم- ومَن رحل منهم -أدخلهم الله فسيح جناته-. ذلك هو جزء من تاريخ بلدي، والتاريخ هو نحن الأفراد، والمجتمع، والأحداث، وسنحمل المعروف لهؤلاء. وهذا الرجل صنع المعروف في مناحي تاريخ البلد في قطاعات يصعب عدّها أو حصرها في التعليم، والفكر، والثقافة والإعلام، والاقتصاد، والطب، والعمل المجتمعي والسياسي، وفي كل ما أعرف، وما لا أعرف. وبعد.. ماذا أيضًا؟ أشعر بالندم لأنني مثل غيري لم أكتب عنه في حياته؛ ليسعد بأن أبناءه وبناته يعرفون ويشعرون ويقدرون عطاءه، ويحملونه جميلاً لا يفيه غير الدعاء، وهكذا نحن نسكب حبر مشاعرنا، ونغدق بعد رحيل الأحبة، ونملأ الصحف والأوراق بأحرف من القلب.. ليتنا نتعلّم أن نسمع هؤلاء الرموز ما نكتبه بعد رحيلهم، ليتنا نكتبه قبل أن يغادروا ليعرفوا كم أحببناهم، وكم هم رايات نحملها فخرًا، ونعلّم أولادنا أن يفخروا هم بها مثلنا. ختامًا أدعو له بأن يجعل الله مكانته في الفردوس الأعلى من الجنة، ولعائلته أقول مثلما فقدتموه فقدْ فَقَدَه كل بيت في بلدي، وأعظم الله أجرنا جميعنا فيه. * أستاذ مشارك ورئيس كرسي العمودي لأبحاث سرطان الثدي بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة