(1) همومنا (الخاصة) التي ندلقها على البياض، تنفتح دلالاتها لتكون هما كليا، نتذوقه على السواء، أنا -ومعي معشر الكتاب- وأنتم على السواء، فما نحن إلا منكم نعاني مثلما تعانون، ونشتكي بمثل ما تشتكون.. ولذلك كان هذا النثار. (2) لطالما كان يؤرقني هاجس البحث عن مكان للاستشفاء يمكن أن يتجه إليه الانسان في مجتمعنا غير المستشفيات العسكرية المقصورة على أربابها، والمستشفيات الكبرى الخاصة (للخاصة)، ومن في حكمهم، ممن ينتسبون إلى الشركات العظمى في البلاد (أرامكو وسابك..مثالا). ولكن أين يذهب البقية؟ لأزعم أن كثرة الأخطاء الطبية القاتلة، التي نسمعها ونقرأها صباح مساء، وحالات الإهمال المميتة، لم تكن إلا بسبب تلك العشوائية التي تجتاح هؤلاء (البقية) وهم يتجهون -عندما تلم بهم جائحة المرض- إلى أي مركز بمسمى مستشفى أو مستوصف (تجاوزًا) يمكن أن يلملم تشتتهم المؤلم لحظة من الزمن.. علمًا بأن هؤلاء البقية قد ارتهنوا منذ زمن لبقية من خبرات ربما تمكنهم من علاج أنفسهم في الحالات المرضية الاعتيادية، ولكن ثمة حالات مرضية قد تبزغ على تلك الأجساد (العامة) فجأة ولا تعرفها ذاكرتهم مع المرض، فتحتاج فعلا إلى طبيب (حقيقي) يداوي الجراح الغائرة، ولكن أين يجد هؤلاء (العامة) ذلك الطبيب.. الطبيب الحقيقي؟، وهم الذين يعرفون قبل غيرهم حقيقة أطبائهم في المراكز الطبية المستعجلة! أما المستشفيات الحكومية، فأقصى ما قد يحصلون عليه منها غرفة الطوارئ التي تتكدس فيها أجساد البشر كتكدس المعتمرين في ساحات الحرم المكي مع فارق الخدمات المقدمة بالطبع!.. على العموم فما كنت أهجس به قد تحقق فعلا.. وإليكم(الحكاية): (3) جنى..ابنتي الوسطى ذات السنوات السبع، التي كانت تلهج دائما بالله والعرش العظيم. ترتب الدنيا غيمة ومطر. ترسم ورود القلب من كل شكل ولون.تهمس بكلمات مبتهلة وتمضي.(جنى) التي إذا هزع الليل ضممتها وصرنا نحلم بغد تتلو فيه سورة الإخلاص.. وتبتهل بأحاديث الصباح.. تنثر أريج حنانها الأسطوري فندوخ من غمرة الاطمئنان.. ترقص ألحان الأرض الموغلة في الحنين.. فجأة يدور الفلك دورته المريرة، فتستيقظ (جنى) على طفح جلدي مع تورم في مفاصل القدمين واليدين.. تقابل توتري ونظراتي الزائغة بجملة “بسيطة يابابا..لون متغير ويعود”، وهي لا تدري أن جسدها سيخذلها بعد أيام فلا تستطع الحراك إلا لماما!..آخذها إلى أقرب مستوصف فأقابل طبيبا باكستانيا.. ينظر بحياد إلى المشهد أمامه، ثم يكتب لي (فيفادول) ليكون له شرف النطق بأول كلمة تشخيصية للمرض (حساسية)..! لم أكن أحمق فأصدق هذا الرجل، لآخذها -مسرعا- إلى المستوصف البعيد الذي كنا نرتاده أيام (الزكام والانفلونزا) فلا يجد (طبيب الأطفال) العتيد فيه غير تلك (الحساسية) المفتوحة على كل الاحتمالات، ولكن عندما يزاد الطفح نعود إليه في المساء فتتجلى أمانته ويخذله ذكاؤه المهني التجاري، فينكشف ولا يبدي غير نظرات حائرة، كأن هذه الحالة التي رأيتها جلية لدى الطبيب (قوقل) وأنا أكتب فقط كلمتين لاغير (طفح جلدي) لم يرها بتاتا رغم أنه مرض يصيب الأطفال فقط، ولكن طبيبنا يشير -بعجز لا يوصف- عليّ أن أذهب إلى صديق له في أحد المستشفيات الخاصة التي تملأ قضاياها أروقة المحاكم الطبية! يتصل علي أحد الأصدقاء مشيرا إلي بالذهاب إلى كبير استشاريي الجلدية في مستشفى الملك فهد وسط المدينة.. أطمئن قليلًا إلى هذه المشورة فمن يدخل هذا الكيان الطبي بلا مواعيد وانتظار؟.. أدخل على ذلك الاستشاري الذي يبدو أنه (جداوي صميم) من أبناء هذا البلد الكريم.. يقول لي بلا مبالاة على الاطلاق: “هاه”!. لم يكلف نفسه بالنهوض والكشف على المريضة على السرير القابع بالانتظار أمامه، بل طلب أن أحضرها إليه ليكشف على ما أمكن من جسدها، وهو مستريح على مقعده غير الوثير! يشخص الحالة بمرض جلدي بسيط لم يسمه لنا، مؤكدا أنه في طور الانتهاء.. لم يكن ثمة وصف أو علاج أو تحليل.. لم يكن ثمة شيء على الاطلاق! بعد أربعة أيام من اللف والدوران على أطباء البلد الوافدين و(الجداويين) بحثا عن أطياف طبيب حقيقي يريح تلك العينين الغائرتين، تشاء إرادة الله أن أذهب بها إلى مستشفى الأطفال الحكومي، الذي كان من رحمة الله بنا أن سكرتير مكتب (مدير المستشفى) كان في أوج انسانيته ومسؤوليته، ليوجهنا مباشرة إلى احدى استشاريات الأطفال، وهي طبيبة سعودية من كفاءات هذه البلاد الزاهرة.. مباشرة، شخصت المرض بدقيقتين وسؤالين، شارحة لنا الحالة بدقة موجزة ومقنعة، حتى أنها ظلت تقول نيابة عنا كل الأعراض التي سبقت مجيئنا إليها، وكان كل ما نطقت به صحيحا تماما. وبالتالي فكان علاجها صحيحا وفعالا (بمشيئة الله)، لتنتهي معها حكاية “البحث عن طبيب في مدينة جدة”، وتبدأ ابتسامة الجنائن ترتسم من جديد؟ وبعد.. بالتأكيد، فإن لتلك الأسئلة الآتية ما يبررها.. وتظل الإجابة عنها واجبا دينيا -ألسنا بلاد الحرمين؟- وواجبا وطنيا يظل اهماله خيانة عظمى بحق إنسان هذه الأرض: * هل يحتاج المريض إلى هذه (اللفة) حتى ترمي به الأقدار -مصادفة- في أحضان طبيب حقيقي أو (بعضه)؟ * ما نسبة ثقة وزارة الصحة وقادتها ومنسوبيها بالمستوى الطبي المهني لأطبائها، لأن الواقع يفصح عن نسبة متدنية مخيفة في كل الأحوال، فاستشاري الجلدية لايعرف مرضا جلديا شائعا! وطبيب الأطفال يعجز عن التعرف على مسمى طفح جلدي خاص بالأطفال!.. وهكذا! * ثم ما ذنب الذين لم يعرفوا أحدا يسخره الله لهم، لكي يذهبوا إلى الأطباء الحقيقيين مباشرة دون البقاء في غرفة الطوارئ ثم الخروج منها وإليها في كل مرة؟ وأخيرا ياجماعة.. لا نريد أن تكون الصحة في بلادنا تاجًا على رؤوس منسوبيها و(خاصة) الناس فقط... يمكن أن نؤجل مشروعات النهضة التعليمية (وهي مؤجلة من حالها!) ويمكن أن نرجئ إصلاح أمانات ومحاكم وطرقات المدن.. ولكن المسألة في المؤسسة الصحية تظل قضية (حياة أو موت) لا تحتمل التأجيل والعبث والفساد.. الناس (جالسة) تموت.. ونحن نكتب!!