من المعلوم أنّ المخطوطات تمثل المرجع الأساسي والمهم للباحثين لاستقصاء المعرفة والنهل من معينها الفياض، غير أن الواقع حاليًا يقول غير ذلك، فالانصراف عن هذه المخطوطات في عصرنا الحديث بات واضحًا للعيان، فتحولت المخطوطات إلى شيء مهمل أو يهتم بها من قبيل المحافظة على شيء قديم فقط في أضابير التراث، فهل حقًا ما عاد للمخطوطات العربية القديمة دور في حركة العلوم والأبحاث الحديثة، وهل بات كل ما تحويه خارج سلطان المعرفة الحديثة المتطورة، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد انصراف وعدم اهتمام وعدم اعتراف من الباحثين المحدثين بمنجز آبائهم في المعرفة الإنسانية فبادلوا عطاءهم نكرًا وجحودًا وتجاهلًا؟! حيث يرى كثير من المهتمين أن المخطوطات تمثل تراث أمة؛ بل هويتها في الوقت ذاته، وذلك لما تحويه من شتى العلوم والمعارف، التي كانت ترجمانًا لجيل معين برز من خلال ما خلفته هذه المخطوطات، وليس بغريب اليوم الصراع العالمي على هذه المخطوطات والبحث الدءوب ليحظى كل مهتم بنصيب الأسد منها حتى يكون لديهم أهم المخطوطات وأندرها، ولما قد تؤثر عليه في الحاضر؛ وبخاصة إذا ما حققت ونقحت وطبعت، فإن كثيرًا منها قد يكون مصدر نقاش، وحوار، بل قد يصل الأمر إلى الصراع، إذا ما قلبت الطاولة على كثير من الأمور التي نظنها حقائق في عصرنا، ولذلك فإن الاهتمام بهذا الفن والعلم لا بد أن يحظى بأولوية كبيرة لدى الكثير من الجهات ذات العلاقة بهذا الشأن. “الأربعاء” أخرج المخطوطات من أضابيرها ووضعها قضية على طاولة المهتمين... ودونكم ما أفادوا به. غياب الدراسة والتحقيق استهلالًا ينظر الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي -أستاذ الآثار الإسلامية بقسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود وأمين عام جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون وعضو مجلس إدارة الهيئة العليا للسياحة للمخطوطات- من زاويتين ضمنهما في قوله: أنظر إلى واقع التراث العربي المخطوط من زاويتين: الأولى جمعه من أنحاء مختلفة من العالم سواء بالشراء أو التصوير أو غيرها من الوسائل المشروعة، وفي هذه الخطوة أرى أن المملكة قد حققت تقدمًا كبيرًا، من حيث صيانتها وحفظها وإتاحتها وتوفيرها للباحثين والدارسين للعديد من المخطوطات العربية النادرة، وقد أسهم في ذلك المجهود العديد من الجهات داخل المملكة يأتي على رأسها جامعة الملك سعود، وهي تعد رائدة في اقتناء المخطوطات بحكم أقدميتها وسبقها وإمكاناتها المادية والبشرية، وتلحق بها في هذا المضمار جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة أم القرى، وجامعة الملك عبدالعزيز. وهناك العديد من المكتبات العامة التي لها اهتمام واسع بالمخطوطات مثل مكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة الملك عبدالعزيز، ومركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية والبحوث، التي تتمركز كلها في مدينة الرياض، وإننا نتطلع لأن تكون لهذه المراكز فروع لها في بعض مناطق المملكة. والزاوية الثانية التي أنظر بها للموضوع تتجلى في دراسة التراث المخطوط وتحقيقه، وهذا للأسف لا يزال يراوح مكانه. وإسهامات المملكة بل العالم العربي بأثره محدودة في هذا الجانب مقارنة بالعدد الهائل، مما وصلنا من التراث العربي المخطوط في مختلف العلوم والمعارف. ويستدرك الزيلعي حديثه بقوله: ورغم القصور في هذا الجانب فإن هناك بعض الجهات الرسمية والفردية ذات الاهتمام المقدر مثل جامعة أم القرى التي اهتمت بتحقيق عدد لا بأس به من كتب التاريخ المكي المخطوط، أما على مستوى الأفراد فيقف حمد الجاسر على رأس القائمة بمجهوده الكبير في تحقيق كتب التراث المخطوط، يليه الشيخ الدكتور عبدالملك بن دهيش الرئيس العام السابق لتعليم البنات، الذي حقق ونشر مجموعة من كتب التاريخ المكي، ويعكف الآن على تحقيق كتاب إفادة الأنام لعبدالله غازي، وهو من الكتب المهمة في تاريخ البلد الحرام. وهناك جهود أخرى متفرقة نأمل أن تتكامل وتتسع لنرى مختلف مصادر تراثنا العربي المخطوط مدروسة ومحققة ومتاحة لقراء العربية وباحثيها. على من تقع المسؤولية؟ ويلتقط الدكتور الزيلعي الحديث في محور المسؤولية قائلًا: إضافة لما ذكرته آنفًا في محور مسؤولية جمع التراث المخطوط وإتاحة الفرصة للدارسين والباحثين والمحققين، كذلك يجب تفريغ وتحويل باحثين ومحققين من أساتذة الجامعات وممن لهم خبرة ودراية بتحقيق التراث ولا بأس من تأسيس مركز بحثي سعودي متخصص في تحقيق التراث ودراسته ونشره ويكون هذا المركز مستقلًا وغير مرتبط بجهة أخرى روتينية وتكون له صفته الاعتبارية وميزانيته المستقلة. ملاحظات ومشاهدات ويمضي الزيلعي في حديثه بقوله: ومن الملاحظات التي يمكننا رصدها خلال عملية الحفاظ على التراث المخطوط وتحقيقه؛ فتور الهمة وقلة الحماس تجاه هذا العمل في أيامنا هذه تحديدًا، فألاحظ أن طلاب الدراسات العليا عازفون عن الرجوع إليها والسفر من أجل الاطلاع على هذه المخطوطة أو تلك كما كان يفعل سلفهم، والمؤسف أن بعض المشرفين على هؤلاء الطلاب لا يشجعونهم أو يوجهونهم نحو اختيار بعض كتب التراث المخطوط لتكون موضوعًا لرسائلهم العلمية، ولقد ناديت في أكثر من مناسبة بضرورة توجيه طالبات الدراسات العليا بصورة خاصة نحو تحقيق كتب التراث المخطوط للحصول على الدرجات العلمية فهو أمر مناسب لهن، وهن أقدر على تحقيقه والصبر عليه من الطلاب، ولكن للأسف لا أرى استجابة لندائي. ويمضي الدكتور الزيلعي في سرد ملاحظاته بقوله: من الأشياء التي لمستها في جانب تحقيق وحفظ التراث ضعف التشجيع من قبل العموم حتى أصبح كثير من الدراسين ينظرون إلى المشتغل بتحقيق مخطوط تراثي نظرة دون نظرتهم للمشتغل بالبحث العلمي، وأرى أنه يجب أن يكون من شروط الترقية في الجامعات أن يكون في بحوث الترقية الأربعة أو الستة أكثر من بحث واحد محقق ولا يجوز للباحث أن تخلو أبحاثه من تراث مخطوط كما هو الحاصل في بعض البحوث العلمية. وحول تفرق مراكز المخطوطات بين جامعة الإمام محمد بن سعود وجامعة أم القرى وتفرق المخطوطات بين المدينةالمنورةومكةالمكرمة وبعض الجهات الحكومية وتعدد الفهارس بينهما، اقترح الزيلعي قيام مؤسسة واحدة مختصة تُعنى بجمع المخطوطات كلها وتسمى هذه المؤسسة “مركز خدمة التراث”، بحيث يكون قبلة للباحثين يتجهون إليها منقبين وباحثين، فإن ذلك من شأنه أن تكون له القوة باجتماعه بعيدًا عن ضعفه في التفرق والانتشار ولا بد من الانتفاع بالوسائل الحديثة والأجهزة الآلية لخدمة التصوير والإدخال التي تعجل المنفعة وتيسر للباحث مراده في وقت وجيز. ويختم الدكتور الزيلعي قائلًا: لا أحد ينكر أن هناك بعض الجوانب المهملة، التي لم تحظ بالتحقيق، ولا أستطيع حصرها هنا لكثرتها وعمقها وعدم إلمامي وإحاطتي ولو بجزء يسير منها، فما اطلعت عليه من كتب التراث العربي المخطوط وما وصل منه إلى علمي لا يتجاوز قطرة من نهر أو غرفة من بحر (وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا). الواقع لا يرضي ويتفق الدكتور علي الصميلي أستاذ التاريخ بجامعة جازان مع الدكتور الزيلعي في الواقع غير المرضي فيما يخص المخطوطات، ويبرز ذلك في سياق قوله: إن واقع رعاية التراث المخطوط وتحقيقه في المملكة العربية السعودية واقع لا يرضي كثيرًا من الخاصة ذوي الفهم العلمي، وإن المتتبعين لنفائس التراث وما تزخر به المكتبات والمراكز وغيرها من الكتب القيمة أكثر الناس معرفة في هذا الجانب. وربما يعود انصراف الناس عن الكتب والمخطوطات العربية القيمة بسبب التوجه المعاصر نحو كل ما هو جديد وحديث وسهل، فيبدو لي أن هذا واحد من الأسباب التي جعلت العناية بالتراث أقل مما كانت عليه في السابق، ولو أن المنشغلين بهذه العلوم الحديثة الجديدة تأملوا لوجدوا أن المخطوط المحقق يمثّل مولودًا جديدًا تأخّرت ولادته يستحق النظر إليه والتطلع في محتواه القيم. وأرى أن المسؤولية في ذلك تعود بالدرجة الأولى للمؤسسات العلمية التي تحتضن من ذلك نصيبًا كمكتبات الجامعات ومراكز خدمة التراث ومكتبة الملك عبدالعزيز ومكتبة الحرم المكي وكذلك المكتبات التجارية الخاصة. جوانب أهملها المحققون وفي محور الجوانب التي لم تحظ بالتحقيق في التراث المخطوط يتابع الدكتور الصميلي حديثه مضيفًا: إن جوانب التراث من حيث الجملة قد شملتها عملية التحقيق وخاصة ذلك الجانب الذي يتعلق بالشريعة واللغة وهي متفاوتة في ذلك، فالكتب التي حققت في مجال القرآن والقراءات أقل من الكتب التي حققت في مجال التفسير، والتي هي أقل من التي حققت في مجال الحديث وكذلك الفقه. وهناك جوانب شبه مهملة في هذا الجانب مثل الكتب المتعلقة بعلم الاجتماع والطب والفلك وغيرها والسبب في ذلك يعود إلى أن المشتغلين بهذه العلوم لا عناية لهم بالتراث ودراستهم على طريق مختلف، وهم معذورون في هذا، وأقترح أن يشترك في مثل هذه المخطوطات المتعلقة بالعلوم المذكورة طرفان أحدهما له المعرفة بالتحقيق والتراث والآخر له المعرفة بما يشتمل عليه المخطوط المراد تحقيقه. ويرى الصميلي أنه قد درج كثير من الناس في العهود الأخيرة على عد التحقيق عملًا تقنيًّا يتلخص في جمع المخطوطات والمقابلة بينها، وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتحشية الصفحات بالفروق بين النسخ والبحث في المعاجم عن معاني الغريب وتراجم الأعلام ومعاني المصطلحات، وقد فات هؤلاء أن التحقيق عمل مضنٍ ومعاناة وتفكير دائم وتفكر، وقبل ذلك كله زاد علمي كبير جمعه الممارس من سنوات دراسته ومطالعاته وسياحته العريضة في مجالات التراث الكثيرة والمتنوعة وسبر أغوارها واطلاع على أعماق فكر الأمة وقيمها الثابتة وشخصيتها الشامخة، كما كان يردد الأستاذ أحمد محمود شاكر رحمه الله. ويضيف: إن التحقيق من هذه الزاوية موقف وتصور، وصاحبه بعمله هذا -وإن كان يشتغل بكتب التراث القديمة، وعلى عكس ما يعتقد الأغرار لأول وهلة من بعده عن العصر وقضاياه ومشاكل الإنسان الحاضرة وهمومه- مرتبط أشد الارتباط بهذا العصر وتلك القضايا، وعمله ما هو إلا موقف من قضايا الأمة ومن ماضيها وحاضرها وتصور واضح لمستقبلها، وقد انتفع الناس بجهود المحققين في المجالات المعرفية المختلفة وبنوا عليها أفكارهم وآراءهم، فلم تظهر صورة الأدب العربي المشرقة الوضاءة، إلا عندما أخرجت إلى الناس مجاميع الأدب ودواوين الشعراء مضبوطة محققة، ولم يؤسس النقد إلا بفضل إخراج نصوص النقد العربي القديم مثل كتب: الجاحظ وابن سلام الجمحي وقدامة بن جعفر وابن طباطبا العلوي وغيرهم، ولم تدعم حركة العناية باللغة العربية والدفاع عنها إلا بظهور كتب اللغة ومعاجمها، كما لم تزدهر الدراسات القرآنية والحديثية إلا بعد نشر أمهات كتب مصححة، وقس على ذلك مجالات المعرفة العربية الإسلامية الأخرى. مختتمًا بقوله: وهكذا نرى أن العناية بالتراث العربي الإسلامي كانت مواكبة لقضايا العصر وتحدياته، ولقد كان هذا التصور هو السائد عند طائفة المحققين الرواد من أمثال: أحمد محمد شاكر، والسيد أحمد صقر، وعبدالسلام هارون، ومحمود محمد شاكر، ومحمد بهجت الأثري، ومحمد كرد علي.. وغيرهم من العلماء الأجلاء من مختلف الأجيال. بين الواقع والمأمول من جانبه يقول المستشار الثقافي بمجموعة خوجة حسين عاتق الغريبي: تمثل المخطوطات قيمة أدبية وتاريخية وعلمية ذات أهمية بالغة، وتعكس في محتواها حضارة الأمم في شتى ضروب العلم والمعرفة، لذلك فإن المجتمعات عامة تحرص على البحث عن المخطوطات والمحافظة عليها، وتحقيقها ونشرها للاستفادة مما دوّن فيها من نتاج فكري، في بناء حضارة جديدة تستند على ثوابت أصيلة من القيم والإبداعات الموروثة، وكما قيل “من ليس له ماضٍ ليس له حاضر”. ماضيًا إلى القول: وإذا نظرنا إلى تاريخ أمتنا العربية والإسلامية، نجده مليئًا بالتراث المخطوط الحافظ لفترات تاريخية زاهية كانت تمثل أعظم حضارات العالم، ويتضح هذا من خلال الانجازات الباهرة التي تحققت في العصر العباسي وبالتحديد في القرن الرابع الهجري، التي شملت مختلف أنواع المعرفة من علوم الشريعة واللغة والأدب والطب والرياضيات والفلك الزراعة والصناعة وغيرها. ورغم تعرض تراثنا المخطوط لعاديات الزمن، سواءً بالحرق أو الغرق أو تعمد ضياعها فإن الكثير لا يزال محفوظًا في خزائن المكتبات العربية والعالمية، ويحتاج بعضه إلى بذل المزيد من الجهد لإعادته إلى مواطنه بالشراء أو التصوير، والحفاظ عليه وتحقيقه ونشره. وفي الواقع نرى جهودًا كبيرة تبذلها المراكز العلمية في المملكة لجمع المخطوطات النادرة وتسهيل وصولها للباحثين للاستفادة منها، ومن أهم هذه المراكز: مكتبات الجامعات السعودية، ومكتبة الملك عبدالعزيز، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ودارة الملك عبدالعزيز، والمكتبات العامة في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، وبعض المدن الأخرى. غرس روح البحث ويتابع الغريبي قائلًا: يرى أحد الباحثين في هذا المجال أن الإحساس بتراثنا المخطوط هو إحساس طبيعي بالماضي وحاجة الحاضر إليه.. ولعل أقل ما يحتاجه منا هذا التراث يتمثل في العناية به، وتمثله في واقعنا والعمل على جمعه والحفاظ عليه ونشره محققًا تحقيقًا علميًا يقربه من أذهان أجيالنا ويشدهم إليه. وإذا كانت هذه مهمة الأساتذة المتخصصين في التراث بالدرجة الأولى فإن المأمول من جامعاتنا أن تغرس روح البحث الجاد في نفوس الطلاب، خاصة في الدراسات العليا لينطلقوا بهمة وشوق نحو البحث عن المجهول والمعلوم من مخطوطاتنا المتناثرة بين المكتبات والمراكز العلمية في أرجاء العالم، وإخراجها لتحقيقها ونشرها ليستضاء بنورها في مجالات الحياة المتعددة. ومن الإنصاف الإشادة بما تبذله دارة الملك عبدالعزيز وعلى رأسها أمينها الدكتور فهد السماري من جهود في سبيل جمع الوثائق والمخطوطات، وقد لفت انتباهي ما ذكره سعادته في أمسية تكريم اثنينية عبدالمقصود خوجة له بتاريخ 8/2/1425ه الموافق 92/3/2004م عن مشروع “توثيق المخطوطات الإلكترونية”، حيث قال: «بلا شك أن أي وثيقة سواءً مخطوطة أو مكتوبة أو صوتية التوثيق الإلكتروني لها مهم.. وبدأنا في هذا فأعددنا حوالى ست قواعد معلومات إلكترونية للمخطوطات وللوثائق وللروايات الشفوية ولدينا قاعدة جديدة لتوثيق المقالات والبحوث الأجنبية باللغات المختلفة التي كتبت عن الجزيرة العربية..»، إلى آخر ما قاله. وهذه الإشارة تؤكد حقيقة مدى التطور التقني الذي واكب عملية البحث عن المخطوطات وحفظها بطريقة آمنة، وتقديمها للباحث والدارس بكل سهولة. ويذيل الغريبي حديثه بقوله: في أمر المخطوطات هذا لا بد من توفر عامل العشق لدى الباحث ليخلص في تعامله مع المخطوطة وليقدم عملًا متقنًا يفيد الأجيال.