لهذا الشاعر صلة وطيدة بعميد الأدب العربي، ترجع إلى قوله في حفل تكريم الدكتور طه حسين بمناسبة توليه وزارة (المعارف) عام 1950م (التربية والتعليم حاليًا). إذ قال يناجيه: هب بيانك علني أتدَُفقُ فجلال وصفك حار فيه المنطق أنت المرجَّي في الشدائد كلها بمضاء عزم كالمهنَّد يمحق لو أن إنسانًا.. تخيل حاجة يصبو إليها.. راح بُّرك يسبق!! وحدث بعد ذلك بعد أيام قلائل، أن توجه الشاعر فضل اسماعيل إلى مقر الوزارة الصيفي بالاسكندرية، وهو هائج ثائر، وبيده (شكوى) شعرية يقول فيها: تعذر حظي فما أنحسه وأدبر نجمي فما أتْعسَهْ وأوقعني الدهر في حفرة يسمونها خطأ مدرسه! فقد جمعت من ضعاف النفوس شبابًا.. من الخير أن.. تبخسه؟! إلى آخر ما جاء بهذه القصيدة، التي جعلت الشاعر فضل يفر من المدرسة، وهو يعدو، دون أن يقدر عمال المدرسة عن الإمساك به وعدم السماح له بالخروج، في غير مواعيد الدراسة!! وما كان (طه حسين) إلا أن تبسم ضاحكًا، قائلًا لشاعره فضل: على العهد أن لا أريح ولا أستريح حتى ترضى.. وأصدر أمرًا وزاريًا بترقيته من الدرجة الرابعة التي كان الشاعر يشغلها في ذلك الوقت إلى الدرجة الثانية.. وقال لفضل: إنك لن ترجع إلى هذه المدرسة مدرسًا عاديًا، بل سترجع مفتشًا للغة العربية والأناشيد، في الإسكندرية والوجه البحري عامة!! وقد كان، وأصبح إداريو المدرسة الذين كانوا يلاحقونه حين فر هاربًا منها هم الذين يوقرونه بعد الترقية والمنصب الكبير التي تولاه بأمر الدكتور طه حسين.. وبعدها بأيام، أعلن أن الدكتور طه حسين سيقوم بالسفر إلى إيطاليا لقضاء العطلة الدراسية: وأسرع فضل بتقديم خريدة أخرى يقول فيها: إلى أي المدائن يا سفين يغادرني.. ولي قلب حزين؟ أيرضى أن يكون (جحيم) دانتي مآلي.. وهو سخرية وهون لعل الموت موعدنا.. فأمسى ولي جدث يباركه السكون وحينما وفقني الله تعالى بجمع ديوانه من الدوريات القديمة، وذواكر الحفظة، قمت بإهداء نسخة من ديوان محمد فضل إسماعيل، الذي قمت بإيداعه بالمجلس الأعلى للفنون الجميلة، الذي تولى طبعه وإصداره، وبعد إهداء نسخة منه للدكتور طه حسين، وكان قد ترك الوزارة، بعث بكتاب كريم عن ديوان فضل، قال فيه: ((.. على قدر ارتياحي لظهور هذه المجموعة الشعرية الخصبة، بين دفتي كتاب، واستخلاصها من يد التشتت والتبدد، كان شعوري العميق بالأسف والحسرة، على ما لقى الشاعر الراحل في حياته من غبن وحرمان.. فإنه بموهبته الأدبية وكفايته الشعرية، كان خليقًا أن تتاح له عيشة راضية، بل إنه بمشاعره القومية واستجاباته الوطنية، كان جديرًا أن يتوافر له كفاؤها من التقدير والتكريم ولئن مضى الشاعر من دنياه وفي نفسه ما فيها.. إن روحه الآن لتطيب بما تيسر لشعره من صون من الضياع، ولاسمه من ذكرى يخلد بها بين النابهين من الشعراء. طه حسين: ومما يجدر ذكره أيضًا عن هذا الشاعر، أنه اشترك بقصيدة له في تكريم السيدة (أم كلثوم) بالاسكندرية، وحدث أن اصطحب والدته معه إلى حفل التكريم، ولما وجدت الناس يصفقون لابنها (الشاعر) عمَّتها الغبطة واسرعت بإعطائه مبلغًا من المال، كان قد طلبه منها! وفي قصيدته في حفل تكريم (أم كلثوم) قال يناجيها: ما مات (شوقي) وقد خلدت سيرته فهل أموت وما وحدت في الرجم فخلديني بلحن منك ينفعني فأسرعت أم كلثوم قائلة له ببديهتها الحاضرة، وغالبة طابع المداعبة عليها: استنى على رزقك يا فضل.. أنا غنيت لشوقي لما مات.. وانت لما تموت، أبقى أغني لك، أي تغني قصيدة من شعر فضل.. رحم الله فضل إسماعيل رحمة واسعة، الذي قال في ختام حياته: قرأت كتاب (الموت) من عهد آدم إلى يومنا هذا.. ولما أتمم وعودت نفسي إن قرأت صحيفة أو احتجت في بحثي لشعر ومعجم قرأت إلى أن ينفد الصبر كله فأخرى بالمغزى على خير مغنم ولكن كتاب الموت خيب فطنتي ولم ألق شيئًا في العثار الملثم .. نعود كما كنا ترابًا مهادنًا إذا ما قعدنا.. صورة اللحم والدم