في “سوق عكاظ” استوقفتني فصاحة شعر “طرفة بن العبد”.. ذلك الذي مات قبل آلاف السنين.. ولكن صوته لم يزل ينبعث بين طرقات السوق العتيق. قلت لنفسي: توقف وتعال نميل إلى حيث ينبعث ذلك الصوت الأصيل. سحبتني قدماي فوجدته يقف شامخًا يمتشّق سيفه وبجواره خاله المقيت (المتلمس) ولكن ماذا يفعل هنا.. وما الذي حرّك التاريخ حتى يعود به من قبره عبر غبار السنين. دخلت خيمة ضخمة فخمة فوجدت رجلًا نحيلًا يحتويك بقلبه قبل ابتسامته الصادقة.. قلت: من أنت؟ قال لي: أنا من حرّك الحبر فوق الورق ليتحول إلى حقيقة تراها أمامك واسمي “رجا العتيبي” وقد قمت بتأليف هذه الصياغة الفنية التي تتجسّد أمامك ولكن لا تستغرب إنه “طرفة” حضر بروحه المتوثبة واستعار جسده من شاب سعودي اسمه “نايف خلف” وهذا خاله (المتلمس) حضر في جسد الممثل “عبدالله عسيري”.. فقلت: ومن هذا الجمع الذي يصاحبه وما الذي ينسجوه؟ فقال: إنهم جماعة من المشخصّين السعوديين جاؤوا ليبعثوا تاريخنا العربي العريق ويجسّدوا حقبة زمنية كنا نعيش فيها كعرب تناطح هامتنا السحاب.. قلت له: ولماذا في سوق عكاظ؟ فقال المؤلف “رجا العتيبي”: نحن هنا نحيي ذكرى سوق عكاظ من خلال تقديم هذا العرض المسرحي لشخصية “طرفة بن العبد” الشاعر الفارس العربي الجاهلي الذي هز كبار الحكّام وأقام الدنيا ولم يقعدها وصاحب العبارة الشهيرة: “هل استنوق الجمل”.. تعجّبت وقلت: وماذا تعني هذه الحركات والرقصات التي يُؤدونها؟ فقال: هذه تسأل عنها مخرج المسرحية الدكتور شادي عاشور بعد أن تشاهد العرض المسرحي كاملًا. وبعد نهاية العرض جاء بخجله الجميل ورحب بي.. قلت: مرحبًا دكتور شادي.. فقال: هذا عمل مسرحي استعراضي أدخلنا فيه بعض التغريب إضافة إلى أننا اخترنا حقبة زمنية معينة من حياة الفارس الشاعر “طرفة بن العبد” ولكننا اختزلنا حياته كلها ضمن حوارات العمل.. فكيف تصفه أنت بعد أن شاهدت العرض؟.. فقلت له: هذا العمل من النوع الذي يأخذك من نفسك غصب عنك فلقد تعاطفت مع الفارس العاشق “طرفة بن العبد” حتى إنني حزنت على قبوله الموت لكي يظل هو ذلك البطل بعد رحيله والذي ضحى بحياته للبقاء على كلمته وتنازل عنها للآخرين، وتميزت في العمل مؤثراته الموسيقية بالتغريب فلم نعد نعلم هل هذه الموسيقى المصاحبة للعمل تأتينا من بلاد الشام أم من مصر أو الجزيرة العربية إنه مزيج عجيب يأسرك إلى مالا نهاية، أضف لهذه المؤثرات التي نسج ألحانها الملحن “سالمين” أضف إليها الرقصات التعبيرية التي أضفت للعمل البعد الزمني المناسب له وخلقت الأجواء العامة للعرض لتسلب المشاهد من حاضره وتسافر بفكره عبر حدود الزمن إلى عصر “طرفة” حتى كرهنا أن نفقده رغم استمتاعه هو بحقيقة الألم والموت، وأضاف المخرج شيئًا من الفنتازيا أجاد في تجسيدها الممثل “محمد باهذيله” عبر شخصية المشعوذ المبتكرة.. كما شدّني ذلك التغريب من خلال دخول شخصية الفارس الروماني التي جسّدها الفنان الشاب “يعقوب الفرحان”.. كما بهرني أداء الملك عمرو بن هند والتي جسّدها المخضرم “زيناتي قدسية” والذي جسد أيضًا شخصية “المكعبر” ملك البحرين.. وكان وزيره الشاب “سعود العبداللطيف” موفقًا ويبشّر بميلاد ممثل متوثب قادم بقوة خلال القريب من الأيام.. وإن كنا لا نستطيع الحكم على الممثل “خالد الصقر” الذي تقمص شخصية “عبدعمرو” زوج أخت “طرفة بن العبد” (الخرنقِ) وتعني “أنثى الأرنب” وذلك بسبب حجم دوره الذي لم يفرد له المؤلف الكثير من الحوارات والمساحة.. ولم يترك قارئ الرسالة الممثل “عبدالعزيز الأحمد” أي أثر بداخلنا كونه كان يقوم بتقديم دوره دون توافق ذهني وجسدي وبالكثير من الكلاسيكية ودون تميز بالرغم من وقوفه بجوار بطل العمل.. وبرع فريق الرقص بلا استثناء في أداء اللوحات الراقصة مثل الراقص “محمد رمضان” و”معاوية” و”بكري” و”نصور” و”فواز” و”روي” و”وِلي”.. وأسجل إعجابي بقدرة المخرج على الإجادة في تحريك المجاميع وعلى خطة الإضاءة المناسبة والمؤثرة رغم أن إمكانيات المسرح لم تساعد في إيصال ذلك للمشاهدين حيث إنها كانت تعاني بعض القصور وقد قام بتنفيذ الإضاءة الشاب الصاعد “المنذر النغيص”.. وبالنظر للأزياء في العمل وأيضًا ملابس الراقصين عبر التابلوهات الراقصة فقد كانت جيدة ومناسبة للعصر الذي تمثّله المسرحية.. والصوت كان طوال فترة العرض جيدًا وواضحًا مما ساعد على استمتاعنا بالمقاطع الشعرية والموسيقية دون أن يفوتنا شيئًا منها.. وبالرجوع إلى استخدام “البلاي باك” في هذا العمل فهو أمر طبيعي في الأعمال الاستعراضية الضخمة حيث إنه وضع دارج ومستخدم في العديد من دول العالم ولا يعتبر ضعفًا في العرض وقد قام بهندسة الصوت والمكساج المهندس “محمد عبدالرحمن”.. وكانت المساجلات الحوارية بين الممثلين جيدة إلى حد بعيد مما أضفى القوة على الحبكة الدرامية وكان تركيز النص في فترة نضج الشاعر دون أن تتناسى تلخيص حياته عبر الحوارات مما جعل النص قويًا ومتسلسلًا ومحبوكًا دون ملل أو إطاله على الرغم من صعوبة البلاغة الشعرية في بعض المقاطع.. وكانت الأزياء في العمل متوافقة مع الحقبة التاريخية للرواية المسرحية فوصلنا معها إلى المصداقية والتوافق الذهني مع العرض المسرحي. قدمت الشكر و التقدير للمؤلف والمخرج والمنتج المنفذ للعمل “عمر بن جابر القحطاني” وخرجت بحقيقة تتمثل في أن وقوف ورعاية صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر خالد الفيصل خلف أعمال مسرحية قوية وجيدة كهذه قام بتنفيذها طاقم سعودي متكامل هو دليل قاطع أن مسرحنا يسير في الطريق الصحيح نحو مسرح بشخصية سعودية أصيلة تمثلنا وتمثّل واقعنا الأصيل مما يبشّر بمستقبل فني وثقافي واعد لشباب هذا البلد.