منذ مجيء الفضائيات في التسعينيات المنصرمة وأنا أسمع بمصطلح ثورة المعلومات، وكان حدسي الأول لهذا المصطلح أن الثورة المعلوماتية قادرة على تثوير العقل، وقادرة على بعث العلم والفكر والمنطق في رؤوس الناس أجمعين، وتبعًا لهذه الثورة المعلوماتية ستكون ثمة انتفاضة شاملة وكاملة في وعي الجماهير، ومن هذا الأساس سوف تتحسن أوضاعهم، وتتطور مستوياتهم المعيشية والفكرية والسلوكية، وستشهد المجتمعات -ضمن هذا التصور البسيط- انطلاقة قوية نحو عالم موحد، تكون المعرفة هي هاجسه الأول، وتكون قاعدته الأخلاقية محكمة ومتينة. كان هذا الحدس المتزامن مع سنوات المراهقة، آنذاك، ينبئ عن تفاؤل ساذج، تفاؤل يلغي الأعراض السلبية للتقنية المعلوماتية ويراها بمثابة الفردوس الأرضي المفقود، إنه نفس التفاؤل الذي دفع فرنسيس بيكن في القرن السادس عشر إلى توهّم وجود جزيرة أطلانطس، حيث يحيا العلماء والجهابذة في مدينة فاضلة، لا تشبه مدينة أفلاطون الأخلاقية والأرستقراطية، بل هي مدينة تعج بالمختبرات والمعامل والمصانع، مدينة عالمية يسكنها العباقرة فقط، ولا مكان للمتفلسفين والوعاظ وغيرهم من الثرثارين! ولكن هذا التصور المتزامن مع سنوات المراهقة دمرته لحظة الوعي الأولى بخطورة التقنية بالنسبة لي، وهي بلا شك ليست اللحظة الأولى بالنسبة للبشرية، أستطيع أن أقول بأن مشهد “دك” برجي التجارة العالميين هو أعظم مشهد تقترن فيه التكنولوجيا مع وحشية التدمير. طائرات تحلق بسرعة مهولة وتضرب مبنى شاهقًا، إلى هنا والأمر كله تقنية في تقنية، روعة في تصميم المباني ودقة في صناعة الطائرات، لكن المريع في الأمر وجود “البشر” في الطائرة والبرجين على السواء، وقد ماتوا وقضوا! بعدها بأسابيع قليلة كنت أتفرج، من خلال الأدوات التقنية الإعلامية نفسها، على مشهد إخباري نقلته قناة الجزيرة من أفغانستان وعاصمتها كابُل، وكان المشهد يحتوي على مناظر مخزية لجنود تحالف الشمال وهم يقذفون بجثث جنود طالبان من فوق كثبان رملية، وكأنهم حزمة من ورق تالف، أو كومة خشب متآكلة، ولا كأنها أجساد بشر لها حرمتها وقداستها. لم تكن هذه الصور ذات دلالة أحادية أو ذات مدلول بسيط: كانت على غاية التركيب والتعقيد، كيف يمكن فهم سيادة التقنية على الإنسان إلى هذا الحد الذي يبلد المشاعر ويغتصب الأحاسيس ويجعلنا يوميًا على مرأى ومسمع من هذه الأحداث الإجرامية التي تقودها دول وجماعات مسيسة لا تكترث بأحد؟ هذا يدل على أن الثورة المعلوماتية لم تغرض بالضبط إلى زيادة الأفهام وتعليم الإنسان وترقيته، يمكن القول، بسهولة، أن الثورة المعلوماتية ليست وثيقة الارتباط بالجانب الأخلاقي، فهي وإن كانت -غربيًا- تجابه بمعارضة المحتجين على الإباحية ومشاهد العنف وإيذاء عقول الأطفال والمراهقين، فإنها، والكلام عن التقنية الإعلامية، نجحت في زرع فكرة الاستسلام للعنف العسكري والتهاون في رؤية جثث القتلى العرب وأبناء العالم الثالث، لم تكن هذه المشاهد تمثيلية أو هوليوودية لكي يخرج محتجّون ومتظاهرون غربيون، إنما هي مشاهد واقعية دامية، قوبلت بالتفرج وربما التصفيق من قبل البعض هنا. وانتقالًا من حيز المعلومة إلى حيز “الفهم” و“تحليل” المعلومة، أقول: ليست الثورة المعلوماتية ذات بُعد تأويلي وإدراكي لكي يقال عنها إنها ثورة في العقل البشري، هي مثلها مثل أية وسيلة عادية، يتم توظيفها ضمن “مشروع” و“هدف” مرسوم. فهل هذا الكم الهائل من السيلان والطوفان المعلوماتي يقابل بالتحليل والإدراك بمعناهما الفلسفي والفكري العميق، أم أن هذه المعلومات تدك عقول الناس وتحشوها بما لذ وطاب من مشاهد الهزيمة والهلاك؟ إنه من الواضح أن المعلومة ليست خاملة، فهي تتعرض للتأويل والشرح والتحليل، ولكنها من جهة أخرى ليست “إنسانية” بالضرورة، فهي قد تساهم في تبليد الإنسان وتعطيل ملكاته التحليلية والنقدية، ومن ثم قولبته ضمن إطارات أيديولوجية أو لا أخلاقية تتعامل معه على أنه أداة متلقية ومنفعلة، لا أن يكون ذاتًا واعية ومدركة وفاعلة. هذا يبرز، أكثر ما يبرز، عبر انقياد الجماهير إلى الظلامية والهزيمة، وليس كما قلت في مطلع المقال حول التنوير والانتصار. ومع هذا فإنه لا يخلق بالقارئ الذكي أن ينساق خلف الدعاوى الرجعية التي تدين التقنية المعلوماتية والثورات في الاتصالات إلى آخر مدى، إن هذه هي أجهزة، وأدوات، لها استعمالاتها التي وضعت لها. لكن الإدانة ترتبط حقًا بالاستخدام السيئ لهذه التقنية، وهذا بدوره يولد سؤالًا آخر: هل هذا الاستعمال يتم عن عمد؟ وهل التقنية الإعلامية مثلًا تمرر أطروحاتها بحياد تام وتنقل الصورة كما هي؟ وهل الثورة في المعلومات تستلزم بالضرورة ثورة في الفهم والوعي أم أنها قد تؤدي إلى تدمير الوعي بحسب الإجادة في الاستخدام أو سوئه ؟ هذا ما يفترض بالجميع أن يفكر به في عصر ثورة المعلومات العارمة في عصرنا الحديث.