كان مفاجئًا ذلك الإعلان الأمريكي الذي طالب المواطنين الأمريكيين بتوخي الحذر أثناء سفرهم لأوروبا؛ بسبب إمكانية وقوع هجمات “إرهابية” على عدد من المدن الأوروبية، وقيل في التفصيل إنها قد تكون على شاكلة هجمات بومباي. وعندما تساءلت الأوساط السياسية عن حقيقة الحيثيات التي استندت إليها واشنطن في إطلاقها التحذير المذكور، أجاب جيمس جونز، المستشار الأمني للرئيس أوباما (استقال مؤخرًا) قائلًا: إن السلطات الأمريكية ليست لديها أي دلائل على وجود أهداف محددة، فيما كشفت بعض المصادر الأوروبية أن المعلومات المتوفرة لا تعدو أن تكون اعترافات لسجين ألماني من أصل أفغاني معتقل في قاعدة باغرام الأمريكية، وقد تأكد ذلك عندما أذاعت شبكة فوكس نيوز الأمريكية تقارير أشارت إلى أهداف محددة من بينها فندق إدلون في برلين وبوابة براندنبورغ الشهيرة وبرج التلفزيون في العاصمة الألمانية. من المفيد ابتداءً القول إن القاعدة هي أسعد الناس بمثل هذه التحذيرات، والسبب أن ذلك يبقيها في دائرة الضوء والتأثير، كما أنه يؤكد جزءًا من نظرية عملها ونشاطها ممثلة في استنزاف الأعداء ماليًا، حيث تكلف الإجراءات الأمنية المتبعة في المناطق الحساسة مبالغ طائلة سبق أن أشار إليها أسامة بن لادن في إحدى رسائله، بل إن بعض عناصر القاعدة، وربما بعض المؤمنين ببرنامجها أيضًا قد يقومون هم أنفسهم ببث رسائل معينة يُفهم منها احتمال وقوع هجوم هنا أو هناك، فقط من أجل بث الرعب، وهو جزء مما يسميه البعض “الجهاد الإلكتروني”. قد يكون للتحذيرات التي تنطلق بين حين وآخر صلة ببعض الأجهزة الأمنية التي تقدم معلومات من هذا القبيل على سبيل الاحتياط، فإذا وقع هجوم ولو هامشي هنا أو هناك قالوا إنهم سبق أن حذروا، متجاهلين عشرات التحذيرات التي ثبتت عبثيتها، بل متجاهلين أيضًا عشرات الخلايا التي أعلنوا إلقاء القبض عليها ثم ثبت أنها لم تكن خلايا ولا ما يحزنون، بدليل الإفراج عن أعضائها بعد قليل أو كثير من الوقت. على أن هذا التحذير الذي نحن بصدده، وفي هذا التوقيت بالذات لم يكن عبثيًا كما يبدو، والأرجح أنه كان مقصودًا لأهداف سياسية أكثر من أي شيء آخر، بل إننا نميل إلى أنه أطلق بترتيب مع الدول الأوروبية الأساسية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) التي تتحالف مع الولاياتالمتحدة فيما تسميه الحرب على الإرهاب. إن تصاعد أعداد القتلى من جنود الناتو، وبخاصة من الدول المشار إليها هو الذي يقف على ما يبدو وراء التحذير المشار إليه، إلى جانب أسباب أخرى، ذلك أن زعماء الدول المذكورة يحتاجون إلى تبرير يقدمونه للجمهور بخصوص نعوش القتلى التي تصل تباعًا من أرض المعركة في أفغانستان، وليس لديهم سوى تحذيرات من هذا النوع تبرر تلك الحرب وتؤكد أنها ضرورية لمنع مزيد من الهجمات التي تخططها القاعدة من هناك ومعها حلفاؤها في حركة طالبان على جانبي الحدود الأفغانية والباكستانية. وقد يضاف إلى ذلك جعلها بمثابة تبرير للأعداد المتزايدة من القتلى المدنيين (الباكستانيين) الذين يسقطون بسبب هجمات الطائرات بدون طيار، والتي يقال إنها تستهدف عناصر “الإرهابيين” في تلك المناطق. والحق أننا لا نستبعد أن تقوم بعض الجهات الاستخبارية الغربية بافتعال هجمات هنا أو هناك عبر بعض أشكال الاختراق لعناصر إسلامية من أجل القول: إن التحذيرات كانت جدية، وبالتالي إقناع الناس بأهمية الحرب التي تخوضها قواتهم في أفغانستان من دون أي أمل بالانتصار. المثير للسخرية في سياق التحذير الأخير هو القول: إن الهجمات المتوقعة يمكن أن تكون دموية على غرار هجمات بومباي، فيما يدرك العقلاء أن وقوع هجوم من هذا النوع في أي عاصمة أوروبية ينبغي أن يقيم الدنيا ولا يقعدها، لأنه يعبر عن فشل أمني من العيار الثقيل، إذ ماذا تفعل تلك الأجهزة وعملاؤها وكاميراتها وأجهزة التنصت التي لا تترك شاردة ولا واردة، فيما أثبتت تجربة السنوات الأخيرة أن أي هجمات محتملة لن تعدو أن تكون أعمالًا فردية ينفذها من آمنوا بنموذج القاعدة من بعيد دون اتصال مباشر مع قيادتها مثل نضال حسن وعمر الفاروق. من المؤكد أن المسلمين في الغرب سيتضررون كثيرًا من هذه التحذيرات المتواصلة التي تبقيهم في دائرة الشبهة، ليس بالنسبة للأجهزة الأمنية التي تعرف الحقيقة، بل بالنسبة للناس العاديين أيضًا، كما تسيء إلى صورة الإسلام والمسلمين عمومًا، وهو ما يؤكد خطأ التفكير في أي عمليات تستهدف الناس المدنيين في تلك الدول، خلافًا لقتال جنودها في أفغانستان أو العراق.