قبل أكثر من نصف قرن طرح الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور نظريته بشأن «الفراغ» في منطقة الشرق الأوسط، بعد هزيمة البريطانيين والفرنسين في حرب السويس، مؤكداً مسؤولية الولاياتالمتحدة عن ملء هذا الفراغ، لكنه جوبه بحروب جمال عبدالناصر والقوميين العرب الذين أفسدوا خطط واشنطن للانفراد المبكر بالشرق الأوسط. لكن الباب انفتح أمام صراع القطبين واشنطنوموسكو للهيمنة على الشرق الأوسط. ثم انتهى بانفراد واشنطن بإدارة الشأن الدولي بعدما انهار خصمها دون رصاصة واحدة. وعلى مدى سنوات العقد الأخير، وخصوصاً بعد سقوط بغداد، عاد الفراغ الاستراتيجي بالمنطقة يسيل لعاب قوى إقليمية غير عربية، بدا أنها كانت المستفيد الأكبر من حصاد صراع القوى الكبرى في الشرق الأوسط، وكذلك من تدني قدرة النظام الإقليمي العربي على تعزيز جينات المناعة العربية. الفراغ إذن ليس جديداً على المنطقة، فهو قائم منذ سقوط الدولة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، وكذلك منذ انسحاب قوى الاستعمار التقليدي (بريطانيا وفرنسا) في الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع سبعينيات القرن الماضي،. ما الجديد إذن ما دامت المنطقة قد اعتادت «الفراغ»؟! ولماذا يثور الحديث مجدداً عن فراغ استراتيجي في المنطقة يسعى طامعون وطامحون غير عرب إلى شغله كل على طريقته؟! الجديد في ظني هو ثلاثة عوامل أو مستجدات أساسية: العامل الأول: هو انتهاء عصر القطبية الثنائية بانهيار جدار برلين وسقوط الكتلة السوفيتية معلنة نهاية الحرب الباردة، حيث اعتادت المنطقة طوال نصف قرن من الحرب الباردة، على الاستقطاب بين أعضاء النظام الإقليمي العربي سواء إلى جانب موسكو أو إلى جانب واشنطن، وكان حال الاستقطاب مثل عكازين تتوكأ عليهما المنطقة وتستريح إليهما مهما بدت حركتها عاجزة وقدرتها محدودة. العامل الثاني: خروج مصر من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي بعد اتفاقات كامب ديفيد وتوابعها في المعسكر العربي، ثم تداعيات الحرب العراقية الإيرانية وصولاً إلى غزو الكويت ثم سقوط بغداد. العامل الثالث: تداعيات الغزو الأنجلو - أمريكي للعراق، وانعكاساته السلبية على حضور واشنطن «الإقليمي» حيث باتت حليفاً يخشاه حلفاؤه، وعدواً لا يخيف أعداءه، وفيما بدا أن إسرائيل قد تكون الرابح من سقوط بغداد خارج حسابات القوة العربية، بعد خروج مصر باتفاقات السلام من تلك الحسابات، تبين للجميع بعد إنجلاء غبار المعارك في العراق وافغانستان، أن ايران ربما كانت الرابح الأكبر من حروب جورج دبليو بوش، الذي خلص الإيرانيين في الواقع من عدو مزعج في أفغانستان (حكومة طالبان)، كما ثأر لهم من جار شديد الإزعاج في العراق (نظام صدام حسين) بل ان هدايا بوش الابن لطهران تعدت ذلك بكثير حيث أصبح للإيرانيين حضور مؤثر وفعال في قمة السلطة بالعراق - تابعوا مخاض الحكومة العراقية الطويل بعد انتخابات حاسمة انتهت لصالح علاوي خصم طهران- تماماً كما أصبح لدى طهران المزيد من الجنود الأمريكيين على مقربة منها، قد يكون بوسعها استخدامهم كرهائن أو دروع بشرية في أي صراع مسلح مع واشنطن، مستفيدة من نظرية الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونج الذي كان يعتبر التعزيزات الأمريكية في فيتنام مصلحة صينية وكان يقول: we need more of the American flesh” (نريد المزيد من اللحم الأمريكي هنا قريباً منَّا). إدراك إدارة أوباما لأخطاء سلفه بوش الابن، سرعت خطى الولاياتالمتحدة نحو الانسحاب من منطقة غاب عنها أصحابها، وباتت شبه شاغرة من حضور ملموس وفعال للقوى الكبرى، الأمر الذي أغرى قوى إقليمية غير عربية بالتطلع إلى الهيمنة على المنطقة أو انتزاع حصة المصالح الأكبر فيها. ولكن أين العرب؟ ولماذا لا يملك النظام الإقليمي العربي القائم آلية فعالة وواضحة لملء فراغه، والسيطرة على مقدراته؟! تقودنا محاولة الإجابة عن هذا السؤال إلى جملة أسئلة فرعية قد تساعد على «تشخيص الحالة» قبل محاولة «وصف الدواء» أو حتى اتخاذ قرار قد لا يكون ثمة مفر منه بإخضاع النظام الإقليمي العربي برمته إلى «جراحة عاجلة». أول هذه الأسئلة هو: هل هذا الفراغ الاستراتيجي الذي نعاني وحشته ونخشى توابعه.. هو موروث وافد علينا أم أننا نحن من ذهب إليه بوعي أو بغير وعي؟! ثاني تلك الأسئلة هو: هل هو فراغ «قدرة» أم فراغ «إرادة».؟! ثالث الأسئلة قد يكون: هل ثمة مخرج من المأزق الراهن.. وما هو..؟! بأيدينا أم بأيدي آخرين سوانا ؟!.. سأكتفي بإتاحة الفرصة لتفاعلكم مع محاولة البحث عن إجابات، لكنني لا أملك ترف الصمت، ولا فسحة البوح، فالإجابة عن تلك الأسئلة التي يتوقف على الإجابة عنها صميم الوجود العربي، تقتضي رحلة في تقصي أسباب الغياب العربي، والفراغ الاستراتيجي الإقليمي.. وللإنصاف كما قلت سابقاً فقد كان الفراغ الاستراتيجي قدراً عربياً على مدى قرون خلت، إذ كانت هناك دوماً القوة الكبرى التي تملأه سواء تحت الحكم الإسلامي، أو بعد سقوط الدولة العثمانية، وحتى عصر الاستعمار الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت هناك دوماً قوة كبرى لديها مصالح بالمنطقة وتمتلك آليات لإدارة تلك المصالح وحمايتها، وهى تقوم في أثناء ذلك بحماية مستعمراتها والدفاع عنها- لاحظوا معي أن الدولة العثمانية كانت تكتفي بالفرجة في كثير من الأحيان فيما كان المستعمرون الأوروبيون ينهشون ولاياتها في المغرب العربي وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان- أي أنها لم تكن تملأ فراغ القوة، مكتفية بالولاية الاسمية بداعي الوجاهة السياسية. والفراغ الاستراتيجي الموروث على مدى قرون، لا يمكن أن يكون فراغ قدرة، بسبب ما تمتلكه المنطقة العربية من قدرات وثروات تؤهلها إذا ما جرت إدارتها على نحو رشيد لتكون بين أمم الصدارة في عالم اليوم، ولهذا فهو في الغالب فراغ إرادة، وبالطبع لا توجد ماكينات لاستنساخ الإرادة أو لاستنهاض الهمة، لكن الأمر يتوقف إلى حد بعيد على الإجابة عن السؤال المحوري: إرادة من؟! السلطة.. أم الدولة؟! والمسافة بعيدة جداً بين كل من السلطة والدولة، وبوسع علماء السياسة أن يقولوا لنا لماذا هى بعيدة تلك المسافة بين سلطان الحكم وسلطان الأمة، وأن يوضحوا لنا كذلك تلك اللحظة التاريخية التي تولد فيها الدولة عندما يتعانق سلطان الأمة وسلطان الحكم وفق قاعدة الاختيار الحر. الفراغ الاستراتيجي العربي الذي حذر الأمير سعود الفيصل في قمة سرت من توابعه، ليس قدرا لا فكاك منه، لكنه مأزق خطير عند منعطف تاريخي أكثر خطورة، يقتضي لمواجهته والتغلب عليه أعلى درجات إنكار الذات، والاستعداد الصادق للتضحية بمصالح آنية لبعض الأفراد من أجل مستقبل أمة، لكنه يقتضي أيضاً تدريباً عربياً يومياً على الحضور، بدلاً من الاسترخاء فوق وسائد الغياب.. فالفراغ -أي فراغ- يستدعي حتماً من يشغله.