في الأيام الماضية ظهر التباين جليًا في مواقف السنة والشيعة من الصحابة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم، وبينهما من التباين في أصول الدين والعقائد ما يجعل منهما نقيضين، على قلة في نسبة الشيعة في المسلمين؛ حيث لا يتجاوز عددهم 10% على أكثر تقدير. على أساس من هذه الحقيقة يكون المنطلق لحل الخلاف والتباين، ليس بالتكتم والإنكار، فهذا لا يبني ثقة ولا مصداقية، بل ريبة وشكا. لقد درج الشيعة على إنكار ما تضمنه تراثهم من موقف سلبي تجاه الصحابة، تمثل في التفسيق والتكفير والحكم بخلودهم في نار جهنم، وهذا انسحب على أمهات المؤمنين، وفي مقدمتهم عائشة رضي الله عنها، فلهم فيها قول شنيع، لا يرضاه رجل لأمه، فكيف بأم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نطق به آخر وليس أخيرًا أحدهم، المدعو ياسر الحبيب: كفرها، وأدخلها النار، ورماها بالفاحشة. لم يأت بشيء من عنده، بل ما درسه وتعلمه، وقرأه في التراث والمصادر وسمعه من المراجع الشيعية، والاطلاع عليه متاح للجميع اليوم، فإنكارهم الكلي، ربما أكد فكرة رسوخ التقية في مواقفهم. وصدور البيانات من مثقفي وعلماء الشيعة بالاستنكار، شيء جيد، لكنه لا يكفي؟!! لأنها تضمنت أغلوطات، كتبرئة التشيع مطلقًا أن يكون في تراثه تعرض وإساءة لعائشة رضي الله عنها، وهذا استغفال واضح؟!! ونسبة المواقف المعتدلة إلى أشخاص (الخميني)، مع ما عرف عنهم عكس ذلك. ولا يكفي لأنهم تحاشوا ذكر اسم عائشة والترضي عليها، وكأنهم في حرج، يكشف عن تغلغل ذلك الظن السيء في قلوبهم (تكفيرها، ولو أقروا ببراءتها). ويكشف عن موقف سياسي يسعي في تحقيق المصالح الخاصة للطائفة، لا في بيان الحقيقة. لا يكفي؛ لأن المراجع المعتمدة لدى الشيعة، لم تصدر بيانًا واحدًا إلى اليوم، في براءتها من الأمرين معًا: الكفر، والفاحشة. وقد نشر بعضهم وهو: علي آل حسن مقال في الرسالة الجمعة 15/10/1431ه بعنوان: “براءة زوجات الأنبياء عليهم السلام من الفحش والفجور”. نقل فيها أكثر من عشرة نصوص تبرئ أزواج الأنبياء، لم تذكر عائشة رضي الله عنها في أي منها بالاسم. وقد أصّل للبراءة، وأصّل كذلك لجواز حصول الكفر من الأزواج قال: “ومن الواضح أن فسق الزوجات أو كفرهن لا يعيب أزواجهن ولا ينقصهم، بخلاف زناهن وفحشهن، ولهذا صانهن الله تعالى عن الزنا، ولم يصنهن عن الفسق والكفر”. وقد كرر هذا المعنى مراًرا، فمقاله في تبرئة عائشة من الفاحشة، وليس من الكفر، ولو رجعنا إلى مصادر الشيعة، وجدنا تكفيرها شائعًا مشهورًا. فالبيان والمقال وغير ذلك من البيانات الشيعية التي كانت ترد على الحبيب، كان في رد التهمة بالفاحشة، وليس في الرد على تكفيرها والقول بخلودها في النار.. التباين في المواقف، مرده إلى التناقض في المنطلقات والدوافع.. فإيمان السنة بالقرآن، والبراءة التامة من الطعن فيه بالنقصان، أو الزيادة، أو التحريف، حملهم على اليقين بعدالة الصحابة، وطهارة وإيمان عائشة رضي الله عنهم.. ففي القرآن سورة النور، فيها آيات بينات تبرئ عائشة رضي الله عنها، مما اتهمها به المنافقون من الإفك، تضمنت نهي المؤمنين عن تناول أم المؤمنين بالكلام، قال تعالى: (ولولا إذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين). وقد بدأت تلك الآيات الواصفة للحادثة بوعيد شديد لمن خاض وتكلم، بقوله تعالى: (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). حتى انتهت إلى لعن من يتكلم في أعراض المؤمنات:(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم* يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين). ثم ختمت بشهادة إلهية لعائشة رضي الله عنها بالطهارة، فقال تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم). فعائشة رضي الله عنها من الطيبات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طيب مطيب، وهؤلاء الآيات صريحة في طهارتها وإيمانها وثوابها عند الله تعالى. لكن في التراث الشيعي عدم ثقة بالقرآن، وطعن فيه بالنقص، وفيه ألف الطبرسي: “فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب”. ولهم نصوص بالمئات في ذلك. نعم الاتجاه الشيعي اليوم صار يعلن إيمانه التام بالقرآن خاليًا من أي نقص، لكنه يصر على إنكار أن يكون هذا هو ما في التراث الشيعي، وهذا إخفاء لحقيقة واضحة، يولد الريبة، ويعرقل من بناء الثقة، فالواجب الإقرار بالخطأ، ثم البراءة منه، هذا هو طريق التصحيح. ثم لو تجاوزنا الأمر، ووثقنا بإيمانهم بالقرآن كما هو، فثمة مشكلة أخرى تعترض الطريق، وهو الإعراض عن تقريراته وأحكامه، والتمسك بالعقائد المخالفة له، والدليل على هذا: أن آيات إيمان وصدق وبراءة عائشة رضي الله عنها في القرآن كالشمس، فأين المراجع عنها؟!! إلى اليوم يقولون بكفرها، وبالنار، ومنهم من يتهم بالفاحشة كالقمي في تفسيره 2/377، والعاملي البياضي في الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/165. كذلك الآيات في عدالة الصحابة بينات، وفي القرآن ذكر النبوة واليوم الآخر والثواب والعقاب وصفات الرب جل شأنه، وليس فيه ذكر الإمامة، ولا الأئمة، وعصمتهم، وعلمهم بالغيب، وتدبير الكون.. مع ذلك هم على عقائدهم كما هم، لم يصححوا ولم يغيروا، بل حرفوا معاني الآيات لتتوافق مع ما يقررون!! فأين الإيمان بالقرآن؟؟!! إذا أتينا إلى السنة، فموقفهم منها واضح يقرون به؛ إنهم لا يؤمنون بالسنة، لأنها جاءت من طريق الصحابة، وهم عندهم مرتدون، وهكذا أعرضوا عما فيها من تزكية لعائشة، فلم ينتفعوا منها بشيء، كما لم ينتفعوا من القرآن لما سبق ذكر من أسباب. وقد جاء في الصحيحين في فضل عائشة رضي الله عنها: أن الله تعالى اختارها زوجة لنبيه صلى الله عليه وسلم، في مسلم: (أريتك في المنام لثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير، يقول: هذه امرأتك. فاكشف عن وجهك، فإذا أنت هي). وهي زوجه في الدنيا والآخرة، وكان جبريل يقرؤها السلام، ويأتي الوحي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون بقية الأزواج، وقال فيها: (فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام). وقد قبض بين سحرها ونحرها، وهو ما كان يتمناه، وقد سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه، فقال: (عائشة). فالاتفاق على فضلها بين الأمة مشهور، فما حمل هؤلاء على الإساءة إليها تكفيرًا وتفسيقًا؟! الضعف في الأخذ بالقرآن، تارة بالنظر إليه ناقصًا، أو بتحريف معانيه وتفسيره بما لم يدل عليه، ثم الإعراض عن السنة جملة وتفصيلًا: لم يكن مبررًا صحيحًا للطعن؛ لأن الإعراض عن المصدر يحمل على إنكار ما فيه، ولا يحمل إلى إلقاء التهم بغير بينة، فهل لهم دافع ومنطلق آخر، حملهم على هذا؟ إذا تصحفنا في عقائدهم، وجدنا أهمها: عصمة الأئمة. وأولهم علي، وهذا حملهم على الغلو فيه، بل صار بعضهم كالسبائية إلى القول بأنه الإله، حتى إن عليًّا أمر بحرقهم بالنار، ثم إن هذا الغلو موجود في بعضهم إلى اليوم، فهناك من يقول: “يا علي، يا وجه رب الكون”، وهذا مقطع مشهور منشور على النت. هذا الغلو حملهم على المبالغة في عداوة من خرج على ولايته، (انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161) وعائشة خرجت وغرضها الإصلاح، لكنها وجدت نفسها في المعركة من دون إرادتها، وتقاتل الناس حولها، فسميت معركة الجمل لذلك، ثم إن عليًا أكرمها، وردها مكرمة، ولما قال بعض الأوباش بسبيها، قال: أتسبون أمكم؟ فإن قلتم: نعم. كفرتم. وكل خلاف الصحابة لم يكن ليصل إلى حرب، لولا وجود الغوغاء وأهل الفتن، الذين نجحوا بكيدهم وتفرقهم في الصفين، من إبطال كل بادرة للصلح، كما ذكر المؤرخون. ثم إنهم يعتقدون بناء على أصلهم في عصمة الأئمة، أن الخطأ والزلل مانع من الولاية، ولذا شنعوا على الصحابة، حين وجدوا من بعضهم زللًا وخطأ. والحق: أن الخطأ لا يمنع من الولاية لمن تاب مما صنع، أو كان مجتهدًا، أو خطؤه قطرة في بحر من الحسنات، فكل بني آدم خطاؤون، وخيرهم التوابون. تلك المنطلقات المؤثرة سلبًا على موقفهم من الصحابة وأمهات المؤمنين، علاجها تصحيح المفهوم والعلم، ولما درس جمع من مثقفيهم وعلمائهم وبعض المراجع حتى العوام المسائل وفق موازين صحيحة، ظهر لهم الخطأ العلمي والتاريخي الذي وقعوا ضحيته، مما كان دافعًَا للتصحيح. منطلق واحد هو عسير على العلاج، ذلك النابع من فكر شعوبي عنصري فارسي مجوسي، الذي يرى في العرب الفاتحين (الصحابة) أوباشا أشرارًا همجًا، تطاولوا على أمة عظيمة هي فارس، فأسقطوا كيانها إلى الأبد، كما ذكر علماء الفرق كابن حزم في الفصل، والمقريزي في الخطط. فثمة فئة -نرجو أن تكون محدودة- أكثرهم من الفرس، ولهم أتباع من العرب، يدينون بالثقافة الفارسية الساسانية أكثر مما يدينون للإسلام، وعنايتهم بآثارها كعيد النوروز أكبر من عنايتهم بشعائر الإسلام كالعيدين. ويبغضون عمر الفاروق، ويعظمون قاتله أبو لؤلؤة المجوسي، يسمونه: بابا شجاع. واتخذوا له مزارًا رمزيًا، وهي تمارس العنصرية حتى على أبناء ملتهم من العرب، كما في الأحواز. فهؤلاء يبغضون عائشة لأنها بنت أبي بكر مسير الجيوش لفتح فارس؛ أي الكره لها بالتبع، والأصل لأبيها، كحفصة وأبيها عمر المكمل لما بدأه أبو بكر، وقد جعلوا التشيع لطميات وأحزانا ليبقى الحزن في نفس كل الشيعة أبدًا، حزن على الحسين، خلط بحزن على كسرى. • أكاديمي وباحث إسلامي