** مكةالمكرمة تعيش أزمة إسكان خانقة. والعقاريون يؤكدون بأن غلاء الأسعار المرتفع جدًا في القيمة الشرائية للأراضي يعود إلى شح وندرة الأراضي، ولعل السبب ذاته يبرر ارتفاع إيجار الشقق السكنية، الذي بلغ مستويات لم يبلغها من قبل، ولم يكن يتوقعها أحد حتى أولئك غير المهتمين بمتابعة ما يجري على الساحة المكية من تطور عمراني مذهل. لم يكن أحد يتوقع أن الأرض التي كانت قيمتها أقل من ثلاثمئة ألف قبل ثلاث أو أربع سنوات ستتجاوز المليون الآن، كما لم يتوقع أحد أن يقفز إيجار شقة سكنية من عشرة آلاف ريال قبل سنتين إلى 22 ألف ريال الآن. ** ولعل هناك عدة عوامل أسهمت بشكل أو بآخر في أزمة السكن في مكةالمكرمة. أول هذه العوامل هي المشروعات العمرانية الكبرى التي تشهدها أم القرى، وما صاحب ذلك من هدميات وإخلاءات للسكان الذين لم يجدوا بدائل سكنية أخرى قادرة على استيعابهم ليسكنوا ما هو قائم، وبالتالي يزيدون الأزمة اختناقًا. وثاني هذه العوامل عدم وصول الخدمات -وبالذات الكهرباء- لأكثر المخططات التي بإمكانها استيعاب أعداد كبيرة من المواطنين لو تم تعميرها، وخير شاهد على ذلك مخططات ولي العهد التي بقيت من عشرات السنين كما هي مجرد مخططات بيضاء، وأصبح الأهالي ينامون غصاتهم في حلوقهم، فلا حول لهم ولا قوة إلاّ أن يقبضوا قبضًا يسيرًا على صكوكهم في يد، ويدفعون بالأخرى إيجار مساكنهم، ولا بأس إذا ما أرادوا مزيدًا من الحسرة أن يأخذوا عوائلهم إلى هناك لتلتصق أرجلهم بالتراب الذي سيصبح يومًا “ما” سكنًا لهم أو لذراريهم. ثم جاء عامل آخر وهو إيقاف أمانة العاصمة المقدسة لمنح الأراضي للمواطنين من ذوي الدخل المحدود، وكان الله في عونك أيُّها “المحدود”! فوحدك مَن يجعل من بين يديه ومن خلفه سدًّا، وكأن المطحون لا يكفيه دك الرحى. ولا أدري إن كانت ندرة الأراضي قد ارتبط بها، أو نتج عنها هذا الإيقاف، لكن بالتأكيد فإن ربط المنح بمشروع الإسكان الميسر الذي تتبناه شركة البلد الأمين سيكون له أثره إن شاء الله، وبأي درجة كانت للحد من وطأة هذه الأزمة، وعلى ما أسمع بأن هناك أربعة مشروعات سكنية ستنفذها شركة البلد الأمين في غرب مكة وجنوبها وشمالها، وفي أم الجود، ولكن يظل السؤال المطروح بإلحاح: متى ترى هذه المشاريع النور؟ وما أرجوه أن يكون قريبًا. فالمعاناة قد اشتدت بالناس، ولن نتعمق أكثر في هذا الجانب لأنه ليس المقصود بذاته في هذا الموضوع. ما أردت الوصول إليه أنه في ظل أزمة الإسكان هذه ينتصب على الطرف الغربي من المدينة المقدسة مشروع إسكان ضخم أقامته الدولة ليكون أحد الحلول السكنية لسكان أم القرى، وكأنها استقرأت مبكرًا أفق هذه الأزمة!! ** المشروع أُقيم على مرحلتين: مرحلة أولى ثم الانتهاء منها وتوزيعها على المواطنين المتقدمين لطلب قروض عقارية حسب قوائم الانتظار المدونة في الصندوق، ورغم أن القبول كان على مضض نتيجة أننا لم نألف كثيرًا قضية المجمعات السكنية، إلاّ أن موقع ومميزات هذا المشروع رفعت قيمه الشرائية كثيرًا، ممّا جعل أولئك الذين باعوا فللهم بأبخس الأثمان يعضون على النواجذ!! أمّا المرحلة الثانية فعندها وقف حجر العثرة، أكثر من عشر سنوات والمشروع متعثر، مقاول «لهف» الدراهم وفرّ إلى خارج المملكة، ومقاول أكل الدراهم ورقد تحت الطاولة!! وتحوّلت ما يقارب من 1200 (فيلا على العظم) إلى مساكن للطيور والغربان، يصفق فيها الهواء الغربي، ويدب من تحت ترابها العابثون! ويشعر سكان مكة بالأسى العميق وهم يستحضرون معاناتهم إذا ما مروا من جوار هذا المشروع العاثر، ويتساءلون بمرارة: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ ** أخيرًا يبدو أن الفارس قد يترجل ولكن كيف؟ بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام فإن هذه الفلل ستُباع بالمزاد العلني! هل هذه هي النهاية السعيدة لهذا المشروع؟ وما الذي دفع لفكرة المزاد العلني؟ ثم ما هي الرؤية المقابلة عند الناس؟ أسئلة كثيرة قد تحتاج إلى الكثير من التفسيرات، ورغم أنني لا أحب استباق الأشياء بما نجهله أحيانًا؛ لأن ذلك يعتبر نوعًا من «التكهنات» غير المرغوبة في الكتابة، إلاّ أن هناك متداولات عديدة تدور حول هذا الموضوع. ** هناك مَن يؤيد المزاد العلني، ويرى أن في ذلك ليس خروجًا من أزمة تعثر المشروع فقط، وإنما قد يحقق نوعًا من العدالة، ويحقق زيادة عددية في المستفيدين. فمن الظلم كما يقول بعض الخبراء أن تُباع فيلا على مواطن بتسعمئة ألف ريال على أقل تقدير، في حين أن قرضه العقاري لا يتجاوز ثلاثمئة ألف ريال! ومن الظلم أيضًا إعطاء فيلا لمواطن بثلاثمئة ألف ريال فقط، في حين أن قيمتها مليون ريال، ولذلك فالمزاد العلني عندهم هو الحل الذي يحقق العديد من التوازنات، ومنها أن قيمة الفيلا لو وزعت على قوائم الانتظار فإنها ستكفي لثلاثة مستفيدين بدلاً من واحد، وبالتالي فإن هناك أكثر من ثلاثة آلاف أسرة ستستفيد بدلاً من ألف أسرة. ** هذا في حين أن آخرين يرون بأن المزاد العلني ستكون فائدته محصورة فقط على المستثمر. أمّا تسليم الفلل مباشرة إلى أصحاب القروض فستستفيد منه أسر بكاملها! وفي النهاية فإن الأمر يبدو أنه قد حُسم تمامًا لصالح المزاد العلني، لكن المسألة الأهم تظل في من يستفيد من العوائد؟ وما أعنيه تحديدًا فإنه حتى وإن كانت هذه الفلل ستُباع بالمزاد العلني، فإن ما يتمناه المكيون هو أن تعود قيمة المزاد على أصحاب القروض الموجودين على قوائم الانتظار منذ فترات طويلة!!