قِسّ نكرة مغمور لا يتجاوز عدد اتباعه الخمسين، ثم نزل عددهم الى الثلاثين في كنيسة بروتستانتية صغيرة في مدينة تعد من اصغر مدن امريكا على الاطلاق، جينزفيل في ولاية فلوريدا، يعلن هذا القس فجأة أنه ينوي إحراق المصاحف في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر لهذا العام، فتقوم الدنيا ولا تقعد، الامين العام للامم المتحدة يدين هذه الخطوة بقوة، والفاتيكان يصفها بالاهانة الخطيرة، والانتربول يحذر من وقوع هجمات ارهابية ضد المصالح الامريكية في حال التنفيذ، والرئيس اوباما يحذر من خطر احراق المصاحف لان ذلك سيساعد القاعدة على تجنيد المزيد من الاتباع، ووزير الدفاع الامريكي روبرت جيتس يحذر من هجمات محتملة على الجنود الامريكيين في افغانستان والعراق في حال احراق المصاحف، ومفوضية الشؤون الخارجية بالاتحاد الاوروبي تنبذ هذا العمل، والحكومة البريطانية تعارضه بقوة، الى اخر قائمة المعارضين والنابذين التي شملت على ما يبدو كل الهيئات والمنظمات الدولية والحكومات الغربية. وازاء هذا الاستنكار الدولي غير المسبوق نجد القس تيري جونز الذي لم يسمع عنه احد قبل ذلك داخل او خارج الولاياتالمتحدة يقدم قدماً ويؤخر اخرى ويتفضل بالاعلان عن تراجعه عن احراق المصحف، ثم يتراجع عن التراجع، ويعود ليتراجع وهكذا. وحتى يحسم أمره نهائياً ويتكرم على العالم بالغاء خطوته المهمة تلك، يناشهد الرئيس الامريكي ان لا يفعل، والادهى والامر ان احد الائمة الكبار في امريكا ويدعى الامام المصري يشكره على تراجعه في الوقت الذي تستنكر فيه ابنة القس نفسه فكرة ابيها الشاذة وتصف اباها جهاراص نهاراً بانه “مجنون” ويبين ذلك حال الضعف والاستكانة للمسلمين في امريكا. اعود لاقول: ان هذا القس النكرة لا يمثل الا ثلاثين شخصاً قد يكونون من افراد اسرته وكنيسته صغيرة جداً وتتبع لطائفة البروتستانت ذات الاعداد القليلة في امريكا والعالم والتي تسمح بزواج القساوسة، وتقع هذه الكنيسة في مدينة جينزفيل بفلوريدا كما اسلفت، وقدر الله وما شاء فعل ان ازور هذه المدينة اقيم فيها لاسبوعين تقريباً في شهر يناير من هذا العام 2010م، حين حضرت مع عشرين من اساتذة واستاذات جامعة الملك عبدالعزيز بجدة دورة مكثفة رائعة نظمتها الجامعة بالتعاون مع جامعة فلوريدا ضمن برامج الابداع والتميز التي تقدمها وكالة الجامعة للتطوير على مدار العام، وكان عنوانها “التعلم الفعال من خلال التدريس الفعال” واتمها معي زملاء كرام وزميلات كريمات من معظم كليات الجامعة. ومن بينهم اخي وصديق عمري الاستاذ الدكتور سالم بن احمد سحاب الكاتب بهذه الجريدة، واستشهد بحضورنا هذه الدورة لاوضح للقارئ ان هذه المدينة صغيرة للغاية وقد تكون قائمة على المدينة الجامعية وليس فيها الا شارع رئيس واحد به بضعة اشارات وليس فيها مجمع تجاري كبير واحد واذا اردت التسوق فعليك ان تأخذ الخط السريع الى مدينة مجاورة، وليس فيها الا فندق فخم واحد هو الشيراتون الذي اقمنا فيه وعقدت فيه الدورة فما اهمية هذه المدينة؟ وما اهمية كنيستها؟ وما اهمية قس مجهول الملامح فيها ليتحرك العالم كله ازاء حركته الحمقاء تلك؟ التي لو اقدم عليها لما علم بها احد ولا اهتم بها احد؟ تلك الاسئلة التي يجب الاجابة عليها في ضوء ما وراء الاكمة، فالمقصود ليس تسليط الاضواء على مشروع بناء مركز قرطبة الاسلامي قرب موقع احداث سبتمبر، وهو ما لم يشر اليه صراحة اي من بيانات الاستنكار العالمية، وترك ذلك للقس جونز الذي اجاد اللعبة وصرح بان امامي فلوريدا ونيويورك “خدعاه” حين بلغاه بان مشروع المركز الاسلامي سيلغى او ينقل الى مكان آخر، فمن هو القس جونز ليبلغ بامر كهذا؟ وهل يملك الامامان التصريح بامر كهذا؟ المهم ان الرسالة غير المباشرة وصلت الى كل الامريكيين وكل النصارى في العالم ان بناء هذا المركز هو السبب الرئيس في هذا اللغط، كيف لا وقد تحركت كل المؤسسات والحكومات الكبرى اذاء ما حدث. اذكر اننا صلينا الجمعة في المركز الاسلامي في جينزفيل خلال الدورة. وامنا اخ افريقي محدود التعليم لا يجيد الانجليزية ولا العربية ولكنه ركز خطبته على موضوع خطير للغاية هو ان علماء المسلمين لا يقومون بادوارهم كما يجب داخل امريكا والدليل انه يكلف بالخطبة وهو اشبه ب“دجاجة” كما وصف نفسه.. وتلك حقيقة واقعة واحسب ان لاحداث سبتمبر علاقة مباشرة بذلك، فخلال عشر سنوات حجمت المؤسسات الاسلامية العاملة في امريكا، ووجهت التهم الباطلة الى المنظمات الاسلامية الكبرى في العالم وفي مقدمتها رابطة العالم الاسلامي. فما عاد بوسع هذه المنظمات ان تدعم العمل الاسلامي الوسطي المتوازن في امريكا، ولم يعد هنالك مرجعيات قوية للمسلمين. والا لبادر المركز الاسلامي في جينزفيل نفسها وهو مركز ضخم الى تنظيم حملة داخلية في المدينة والولاية ويشكل المسلمون مجموعة ضغط قوية على حكومة الولاية لردع هذا الافاك وتوقيفه، وحكومة الولاية تلك هذا الحق ولا تملكه الحكومة الفدرالية كما ينص عليه الدستور. انها زوبعة في فنجان، ولكن ليس حول إحراق المصاحف بل وراء الأكمة ما وراءها.