«آمنت بالله رباً لا شريكَ له وبالنبيِّ.. بخير البدو والحضرِ أعوذ بالله من شِرْك يدبُّ كما تمشي النِمالُ.. خفيٍّ ظاهرٍ خطرِ وأستريح إلى التوحيد.. يغمرني سناه في القلب ..والأعمال .. والفكر» هكذا قلت يا غازي، وما شهدنا إلا بما علمنا عن الإيمان إن شاء الله.. لقد خشيتَ أن يأخذَ الموتُ الذكريات، لكنَّ الأوفياء قد عقدوا صفقةَ تطبيعٍ مع الذكريات.. أومَا قلت: «يأخذ الموتُ كل شيء.. ويعيا بالغوالي.. من ذكرياتي الغوالي» وها هي ذكرياتنا تنبش حروفها يا «غازي النفوس» ... يا من لم تبال بالمنصب المزوَّق، ونداءات السلام، وسياسة العرش! وصدحت بالحقيقة: وارتمينا على طواغيت بيتٍ أيها القوم! نحن متنا.. ولكنْ أبيضٍ ملء قلبه الظلماءُ أنِفتْ أن تضمَّنا الغبراء بل جلجلتَ في زمن فتوى التخبط، وفتوى السياسة!: قل لمن دبجوا الفتاوى: رويداً! حين يدعو الجهادُ.. يصمتُ حبرٌ حين يدعو الجهاد.. لا استفتاءُ رُبَّ فتوى تضجُّ منها السماءُ ويَراعٌ.. والكتْبُ.. والفقهاءُ الفتاوى، يوم الجهاد، الدماءُ ولو كان غيرك قالها لكان في «المنفى» الذي طالما أسفت على قومك العرب في الافتخار بتطويره دون سائر مصالح الحياة! أوما ثرت يا «غازي النفوس» في «ثورة في السنة» على البغاة، وألزمت الأحرار قراءة «موسوعة العذاب» ليعرفوا حقيقة الألم؟ فكنتُ ممن قرأتُ الموسوعة وتألمت! ويالله.. كم ودعت أناساً ورفاقاً وملوكاً وصحباً في كتاباتك، وجاء من يودعك ويذكرك «بيا فدى ناظريك»..! وداعاً يامن كنت مشهداً لوحدك، ورسمت لوحة خاصة بك، في كل مجال اخترقته، سياسة، وإدارة، وفكراً، وأدباً... كنت تذهب في محاضراتك الفكرية والثقافية إلى مذهب «التاريخ من الحديث إلى القديم»، فلم تكن تجتر تراث وتاريخ السابقين، إلا وعينك على الواقع الحديث، دون أن تفصل بينهما بسكين! كنت تطرح قضية العصر، وفكرة الواقع، وملمح المستقبل، ثم تعود للتاريخ والتراث والنص، لتربط السابق باللاحق، بعمق وأصالة في جوانب عدة مما ذكرت، ولذا بقيت كلمتك عن التجديد حاضرة في نفوس المفكرين: «التجديد المطلوب في رأيي هو الذي يتجاوز آراء المذهب التي ينقلها فقيه عن فقيه، ويستنسخها مجلد عن مجلد، وتسافر من حاشية إلى حاشية. التجديد هو الفكر الذي يقفز فوق هذا كله ليعود إلى المنبع الأصلي، ومنبعنا الأصلي، كما يعرف كل مسلم، هو القرآن الكريم، والسنة المطهَّرة». نودعك يا «غازي النفوس».. وقد ودعتَ قبلُ صاحبك الذي طالما غنيت باسمه، لأن أغنيته تذكرك بالوفاة أو النعي.! أوما تحدثت تكراراً عن صاحبك في الحب «إبراهيم ناجي»، وعن أول قصيدته «الأطلال»: يا فؤادي رحم الله الهوى كان صرحاً من خيال فهوى لتقول..: «تبدأ القصيدة بداية درامية شبيهة بصدمة كهربائية، بداية القصيدة إعلان وفاة -أو نعي- كما تقول الجرائد»! لتُتمتم بقلب حزين عند تذكرك كلمات الوداع من «ناجي» داعياً مولاك ومولاه: «اللهم ارحم ناجي رحمة واسعة وتجاوز عن خطاياه، وجزاه عنا خيراً فقد أغنى إنسانيتنا بشعره الصادق الجميل». وبعد: فأنا أؤمن بالحديث: «اذكروا محاسن موتاكم». وأعلم أن «د. غازي القصيبي» بشر، اعترته مواقف، وحدثت في حياته تنقلات، أصاب وأخطأ، ووُفق وتعثَّر، وصادم وسالم، وخبا قلمه، وسرح خياله مرة، وأضاء مرات أخرى! أنا أعلم أنه أدار وزارات عدة، وعاصر رجالات الدولة، فطور وغيرَّ، وفلتت منه الريادة حيناً، ولكنَّ قيمته وقامته، ومصداقيته وحضوره، وطربوشه الذي طالما عُرف به في غرف المطاعم، لم يكد ينسى، في زمن غلبت فيه التسلطات، وارتفعت فيه أسقف الأنا! وداعاً «غازي النفوس» ... وأنت تقول في وداع أحد أحبابك: «أيها الرجل النادر! وداعاً .. وإلى الملتقى في الجنة .. إن شاء الله». ونحن نقولها لك اليوم صادقين مستبشرين، في شهر الرحمة والمغفرة! [email protected]