رحل الدكتور غازي القصيبي عن الدنيا صباح يوم الأحد الماضي بعد معاناة شديدة مع المرض، رحل والمثقفون والأدباء والكتاب وكل مهتم بأمر الثقافة يزغرد فرحًا على قرار وزير الثقافة والإعلام بفسح جميع كتبه في المملكة، هذا القرار الذي حينما صدر والقصيبي على فراش المرض قلنا: يستحق هذا الرجل التكريم لكونه رمزًا ثقافيًا كان من الواجب منذ وقت طويل السماح لكتاباته بالوصول إلى القارئ المحلي، وربما الآن بعد وفاته يغدو القرار إما قرارًا متأخرًا، وإما قرارًا نظل نذكر فيه القصيبي، ونشكره وهو في قبره على قرارات نأمل أن تكون متوالية لكثير من الفكر والثقافة والإبداع السعودي المهاجر، والموارب خلف الحدود. سيظل القصيبي مثيرًا للجدل حتى بعد مماته؛ بسبب ما كتبه وما خططت يداه من شعر ورواية، وما صدح به في كتبه من آراء فكرية وسياسية واقتصادية وتنموية وإدارية، ستظل كل هذه السطور التي ستكون بين يد من يريد الأشد تأثيرًا، ونقاشًا، ومداولة. فنحن في عالم لا يلتفت للقيمة الفكرية والثقافية إلاّ بعد أن ترحل عن الدنيا، وتكف عن السماع والإبصار لكل ما يمكن أن يدور حوله، وعنه بالإيجاب أو السلب. وإذا ما تحقق القرار بفسح كتب القصيبي الذي واكب رحيله عنا إلى دار أخرى ربما يطيب له فيها المقام، فإن الإقبال عليه سيكون كبيرًا، خاصة بعد أن أغدقت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة خلال اليومين الفائتين عن غازي القصيبي الوزير والدبلوماسي والشاعر والروائي والمثقف، وشوقت الكل ليقرأ ويبحث عن سر تميز هذا الرجل في كل هذه الجوانب وفي وقت واحد، فهو لم يعش أكثر من حياة ليجعل لكل حياة فنًا يختص بها، بل جمع كل الفنون التي يتميز بها في حياة واحدة، تركها فيما بعد ورحل. يعد القصيبي شاعرًا مجيدًا، وله عدد من الإصدارات في فن الرواية والقصة، مثل (شقة الحرية) و(دنسكو) و(أبو شلاخ البرمائي) و(العصفورية) و(سبعة) و(سعادة السفير) و(الجنيّة) و(سلمى). أما في الشعر فلديه دواوين (معركة بلا راية)، و(أشعار من جزائر اللؤلؤ)، و(للشهداء)، و(حديقة الغروب). وله إسهامات صحافية متنوعة أشهرها سلسلة مقالات (في عين العاصفة) التي نُشرَت في جريدة الشرق الأوسط إبّان حرب الخليج الثانية، كما أن له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة وغيرها منها (التنمية.. الأسئلة الكبرى)، و(عن هذا وذاك)، و(باي باي لندن) ومقالات أخرى، و(الأسطورة ديانا)، و(أقوالي الغير مأثورة)، و(ثورة في السنة النبوية)، و(حتى لا تكون فتنة)، و(أمريكا والسعودية حملة إعلامية أم مواجهة سياسية؟!)، وكتابه الأشهر (حياة في الإدارة). ويمثل القصيبي بحسب ما يرى الناقد حسن الحازمي اتجاهًا تجديديًا في الرواية السعودية، وهو ينحو من خلاله إلى التجديد عبر عدة وسائل في العمل الروائي سعى من خلاله إلى كسر بعض قوانين البنية التقليدية الصارمة، وخلخلة بنائها المنظم، لكنها لم تسع إلى إلغاء عناصرها المشكلة لها (الأحداث، والشخصيات، والزمان، والمكان، واللغة..)، ومثال على ذلك رواية «العصفورية» التي اتكأت على التدفق التياري الذي ينبع من وعي الشخصية مباشرة، ويمتاح من أعماقها السحيقة، وتوظف فيه غزارة المعلومات التي تنهمر على لسان البطل بلا توقف، وتبدو غير مترابطة، كما أن التمثيل الرمزي يجعل من الأحدوثة الرمزية إحدى الأدوات التي يكشف بها المؤلف عن رؤيته. فيما اعتبر آخرون أن رواية العصفورية تملك استراتيجية واعية تبدأ من التسمية، وهي ليست حيادية، بل ذات علاقة بالنمو السردي وبالمعلومة المكثفة وبالاستطراد الموظف وبالسخرية المركزية، كما أن السخرية هي المنقذ الذي انتشل «العصفورية» من الغرق تحت وطأة الزخم المعلوماتي الكاسح، ولولا السخرية لتحول الكتاب إلى ركام من المعلومات يفسد النص الروائي ويعكر مقروئيته. ومع إصداره لديوانه الشعري الثالث «معركة بلا راية» عام 1970، قامت المعركة بينه وبين عدد من أرباب التيار الديني في ذلك الوقت كان من أشهرهم الشيخ ناصر العمر والشيخ سلمان العودة، والشيخ عائض القرني، وكان الديوان حديث الخاصة والعامة، وهو ما وضع القصيبي منذ ذلك الوقت في خانة مظلمة. ونتيجة لكل ما دار من نزاعات فكرية ثقافية بين غازي ومجموعة من الصحويين في أواسط التسعينات، أصدر حينها كتابًا بعنوان «حتى لا تكون فتنة» وهو بمثابة رسالة لنبذ التعصب، وإشاعة التسامح بين أفراد المجتمع والبعد عن الآراء المسبقة والجاهزة. كما أن كتابه «أمريكا والسعودية» واحد من أهم كتب الراحل، وفيه رؤية واضحة ومقارنة صريحة بين الإعلام العربي والإعلام الغربي، وهو يرى من خلاله أن السبب الأول في الهجوم الأمريكي على السعودية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 كان الإعلام الأمريكي محركه الأول. كما يرحل القصيبي وآلات المطابع تلوك كتابين جديدين له سيكونان لأول مرة من الطبعة الأولى في المكتبات المحلية، وهما كتاب «الوزير المرافق» يصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - عمّان) ويضمّ نصوصًا ومقالات كان كتبها القصيبي في ظروف مختلفة، ومن عناوين النصوص: البيت الأبيض... بين سيدين، مع سيدة الهند الحديدية، مع المجاهد الأكبر، مع المستشار «اللسان»! مع المستشار الذي «جاء من الأرياف»، مع الأخ العقيد... في الحافلة، على مائدة الملكة... أخيرًا! بين المهندس والنحلة! مع قاهر الإمبراطورية البريطانية، فاس... بين قمّتين. وكتب القصيبي في المقدمة: قلت في كتابي السابق (حياة في الإدارة): «كانت هناك، بين الحين والحين، مهام تأخذ الوزير من دوامة العمل الروتيني اليومي. أبرز هذه المهام مرافقة الملك وولي العهد، في الزيارات الرسمية، ومرافقة رؤساء الدول الذين يزورون المملكة والمساهمة في المؤتمرات المختلفة». وخلال عملي في وزارة الصناعة والكهرباء والصحة، كلفت بعدد كبير من هذه المهام. وفي هذا الكتاب فصول تحمل انطباعاتي الشخصية عن عدد من رؤساء الدول والحكومات أتيح لي أن أشاهدهم عن كثب، من خلال مرافقتي الملك أو ولي العهد في زيارة لبلادهم أو من خلال زياراتهم هم إلى المملكة. وقد حرصت على أن تبقى الانطباعات كما دونتها أول مرة، منذ سنين طويلة، من دون أن أحاول تصحيح أو تعديل ما كتبته في ضوء التطورات اللاحقة. ويحمل الكتاب الآخر والأخير في حياة الراحل غازي القصيبي عنوان: «الزهايمر»، ويصدر عن دار بيسان اللبنانية، وتدور قصة الكتاب حول شخصية (يعقوب العريان) الذي ينسى اسم زجاجة العطر التي اعتاد إهداءها لزوجته التي تصغره بربع قرن؛ فأدرك حينها انفلات التفاصيل الصغيرة من ذاكرته، وأحس أن التفاصيل الكبيرة في طريقها للضياع، وقرر السفر متذرعًا برحلة عمل، بينما كانت وجهته إلى طبيبه البروفسور جيم ماكدونالد رئيس مركز (الزهايمر) في جامعة جورج تاون الذي وصف له مصحة خاصة بمشاهير وأثرياء العالم المصابين بمرض «الزهايمر»، أو (صفوة الصفوة) كما وصفهم، ومنهم (باري غولدووتر، ريتا هيوارث، شارتون هيستون، الملكة جوليانا)، وآخرون أشهرهم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان الذي قال عن المرض: إنه مرض جميل حيث تقابل الأشخاص أنفسهم، وتظن أنك ترى وجوهًا جديدة كل يوم. القصة جاءت على شكل رسائل يبعث بها السيد العريان إلى زوجته، ولم تستلمها إلا بعد وفاته لا بسبب الزهايمر، بل بنوبة قلبية مفاجئة، وهنا مخرج الحكاية حيث يبعث الطبيب الأمريكي (ماكدونالد) بجميع أوراق السيد العريان، ومن بينها الرسائل لزوجته نرمين. وتعرض غازي القصيبي في لندن بعد نشره لقصيدة بعنوان «الشهداء» في شهر إبريل/نيسان 2002 قصيدة على الصفحة الأولى من صحيفة الحياة، يثني فيها على آيات الأخرس (18 عامًا) من مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة بيت لحم، والتي نفذت عملية فدائية بسوق بالقدس الغربية. وواجه القصيبي انتقادات وغضبًا وامتعاضًا من الحكومة البريطانية، وبعض الجماعات اليهودية بسبب ما ادعوا أنه تحريض على ما يسمونه الإرهاب، وبسبب إشادته بالعمليات الفدائية الفلسطينية. وقال القصيبي في وقتها: إنه مستعد لتغيير رأيه إذا ما وافقت هذه الأوساط على وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون ومن على شاكلته في إسرائيل بأنهم إرهابيون. كما قال القصيبي: إنه عندما يتحلى مجلس «نواب اليهود البريطانيين» بالشجاعة الأخلاقية، ويصف هؤلاء الإرهابيين الإسرائيليين بما يستحقونه، ويعتبر ما ارتكبته الحكومة الإسرائيلية في مخيم جنين بأنه جرائم حرب، فإنه سيكون حينئذ مستعدًا لإعادة النظر في موقفه حيال الفدائيين الفلسطينيين. واتهم القصيبي شارون بارتكاب مذابح جماعية بحق الفلسطينيين، وقال: “إن لجنة إسرائيلية حملته في السابق المسؤولية عن قتل نحو 2000 فلسطيني بريء في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982، وهو يعود مجددًا الآن ليقتل عددًا مماثلًا من المدنيين في الأراضي الفلسطينية. وجاء في قصيدة القصيبي: قل لآيات يا عروس العوالي كل حسن لمقلتك الفداء حين يخصى الفحول.. صفوة قومي تتصدى للمجرم الحسناء تلثم الموت وهي تضحك بشرًا ومن الموت يهرب الزعماء. ويقول في مقطع آخر: قل لمن دبج الفتاوى: رويدًا رب فتوى تضج منها السماء حين يدعو الجهاد.. يصمت حبر ويراع.. والكتب.. والفقهاء حين يدعو الجهاد.. لا استفتاء الفتاوى يومَ الجهاد.. الدماء كما حاز القصيبي في عام 2003 على شخصية العام الثقافية من قبل اللجنة العليا لمهرجان القرين الثقافي بدولة الكويت للدورة التاسعة للمهرجان.