يستيقظ مع الفجر، ينظر من تحت لحافه الصغير لكل ما يدور حوله من أحداث وعندما يطمئن، يرفس اللحاف بقدميه النحيلة وينهض (متمغطًا) فاتحًا فاه الصغير الذي يخبئ بداخله بعض الأسنان المتسوسة يخرج إلى فناء البيت باحثًا عن أمه التي تنشد بصوتها القروي الجميل لكل شيء يسمعها، لدجاجاتها المتناثرة في الفناء تنقم القمح وحبات الشعير ، تنشد لنعجتها العجوز، ولوجه الصبح المشرق، ولرائحة القهوة التي ترقص طربًا تحت نارها الهادئة. يقف قريبًا من أمه يتمتم معها أنشودتها السمراء وشجرة الكين تحرك أغصانها البعيدة المحملة بأعشاش العصافير ونسمة تمُر بالجوار -يبدو أنها جبلية المولد- تحرك لهب النار الخافت. يعود الأب الذي خرج باكرًا محمّلاً ببعض عيدان الحطب، يرمي بها إلى جانب جدار الطين والتنور العتيق ويسلم بصوته الجهوري الخشن.. يجلس بجوار أمه التي تناوله فنجان قهوة تطفو على وجهه حبيبات الهيل المطحون، وبعض تمرات وكسرة خبز يغمسها في صحن سمن ذهبي اللون. يتناول الأب فطوره على عجل، ويهب حاملاً فأسه ومسحاته يطلب الرزق من الله. تواصل الأم نشيدها بزهو ورقة وهي تكسر عيدان الحطب وتقذف بها في جوف تنورها الذي يطلب في كل مرة المزيد، يترك كل شيء ويركض خلف (صيصان) صغار، ودجاجة حمراء تقدم بها السن. قدماه الحافيتان لا تعبآن بما تقعان عليه، فهما اعتادتا وخزات الحجارة، وحر الشمس اللاهب وقت الظهيرة. كل شيء يحيط به صغير مثله، حتى عندما يجوع يذهب لشجرة الكين يقذفها بحجارة صغيرة لعلها تهبه حبات يسد بها جوعه القنوع، وعندما كانت تلوي أغصانها في وجهه يعود لأمه التي تدير رحاها فوق حبوب القمح البيضاء، يجر ثوبها المزركش بسنابل مائلة، تناوله كسرة خبز تبقت من فطور الفجر يحملها في يده، ويعود لركضه خلف النعجة العجوز ودجاج البيت والصيصان. كلما حاول مسابقة الأيام يهزم فيعود لصوت أمه كي يخبئه ويمسح على وجهه.. حتى عندما تساقطت أسنانه المتسوسة، وحلت مكانها أسنان بيضاء جميلة، وتوقف فأس والده عن القطع يعود من صخب المدينة ليتحسس جدار الطين المنهار، وتنور أمه البارد، وشجرة الكين التي كانت تقسو عليه.. يبقي صوت أمه طريًّا لم ينهر يداعب كل شيء حوله، وكأنه مازال يرفس لحافه الصغير، وفي يده كسرة الخبز.