يطل علينا الشاعر عبدالعزيز خوجة الذي احتضن مجمع الاتجاهات الشعرية تحت مظلة واحدة في ديوانه رحلة البدء والمنتهى والتي أحال التقديم عنه لتجربته والكشف عنها إلى الأديب الوجداني عبدالله جفري -رحمه الله- وقد تكشف التقارب بين المبدع والناقد فكلاهما يفيض من خلال أحاسيس وجدانية تهضم الفكر، بل الفلسفة، بل الهم المعاصر في أزاهير جميلة لكنها تتفتق عن مناجاة عميقة لقراءة التكوينات الذهنية، والتيارات المائجة المعاصرة، والهاجس الواقعي المشحون بالمعاناة للذات والمجتمع والأمة والوطن فلسان حاله يقول: هو درب ربما يتبع دربًا والمنى أحلام وعد ذلك البحر طوانا ليس للأمواج حد فالتكوين البشري يتمثل في أمشاج من التنوع الغريزي، والفكري، والبساطة، والفطرة، متماسة مع التكوين الكوني والعلاقات الإنسانية أو لنقل العلاقات البشرية حتى نأخذها بكليتها الخيرية والشرية والوسطية والعقلانية أو الانفعالية أو الاندفاعية، أما الانسانية فإنه تدعونا إلى مائدة القيم العليا للإنسان فحسب. والشعر هو وحي الإنسان البشري الذي يغلب عليه لون من ألوان الغرائز أو الاتجاهات الفكرية، فالإنسان يتعاطف مع تكوينه الذهني والغرائزي، تلك التي تخضع لتنمية الفرد لها فإن ميله لاتجاه دون آخر يجعله يوظف المكونات الذهنية لهذا الاتجاه ويطفو على تفاعل الغرائز الأُخر، بل يوظف العقلانية لاتجاه، ومن هنا تولدت الاتجاهات الشعرية تبعًا لتنوع المبدعين فمن الشعراء مَن هيمنت الأحاسيس على تجربته الشعرية والأحاسيس الوجدانية نابعة من الحب الذاتي أو الحب الجمعي، ويقابلها الألم الذي ينبع من فقدان مكونات الحب، وشاعرنا اليوم هو معالي الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة، في ديوانه رحلة البدء والمنتهى، والعنوان انطلاقة زمنية، فالوجدان وأحاسيسه وانفعالاته لها علائقها التي تتفاعل مع التأثير الخارجي في الطبيعة، وفيض الحب البشري، والخوجة شاعر متمكن من البناء الفني للشعر، فهو يوظف الطبيعة لتنوب عن الأمنيات البشرية: فالأرض المجدبة تتمنى الغيث لتهتز وتربو، وبلغة الانسان لتمرح وتفرح: فإذا انزاحت الغيمة وهي لم تحقق أمل الأرض الجدبة، فالألم والحزن يحتل مكانة في الأحاسيس بدلاً من الأمنيات والآمال: قالت الغيمة للقفر اليباب وهي ترنو من بعيد للسراب من غدٍ أثوي على تلك الهضاب من غٍد يخضر بالمزن التراب لم يصدق وعدها القفر العنيد ربما لم يفهم المعنى البعيد أو رأى في لغة الوعد الوعيد فاللغات؟ نسي القلب اللغات والصبابات نسين الأمسيات أترى مات ولم يدر الممات؟ لا تقولي سوف يأتي فأنا عفت الأمل صهل الحزن بوقتي كل شيء قد رحل والقصيدة يتفاعل معها المتلقي الفطري بروح وجدانية عاطفية، يقف بها عند علاقة الحبيب بالحبيب، والأماني والاستجابة، أو الصد.. ويقف عندها المتلقي الذي لعبت به التكوينات الذهنية إلى أدغال الحياة وعنفوانها الحارق للفكر، فيقول برمزيتها وإسقاطها على الحياة البشرية التي تأمل الأماني فتكون سرابًا، فينمو الألم والحسرة. والغضب والزمن في قصيدته محدد بالفرقة بين الغيمة والأرض المجدية، أمّا في قصيدة (لا هرب) فإن الزمن التاريخي هو التلاقي، وهو احتقان القلب بوهج الحب بالأثر النفسي الذي أحدث التحولات لملاحقة الفاعلية الوجدانية، ونتيجة هذا الاحتضان أو قل ما نتيجة الصيد: يا قلب لا هرب فالسهم قد نشب والنجم قد هوى في لجة اللهب والأمر قد مضى والحب قد غلب يا قلب تحترق لا لوم أو عتب إذ ليس ما أرى من حبها لعب قد همت في الهوى وهزني الطرب يا قلب قد دنا من عمرك التعب والنوم قد جفا العيون واغترب والسهد قد بكى مذ شاهد العجب يا قلب من أنا؟ جذلان أم تعب؟ والنتيجة في تحقيق الأمل مجهولة، فربما أمر تتقيه جر أمرًا ترتجيه، وربما أمر ترتجيه جر أمرًا تتقيه، فإنه عبر بالسهم ليكون هنا صيد، والمصاد هل هو في خير أم يدخل أبواب المعاناة والإرهاق والحسرة والألم؟. فهتان القصيدتان تكشفان عن ازدواجية فطرية وجدانية ذات نظرة قريبة لعلاقة الحب، ولكن التأمل للمتلقي يدرك أن وراء صفو الماء عمقًا عقلانيًّا ينفث عن تكاثف الصور الدلالية، ويستدعي نبض المتلقي بمخزونه الفكري، وكذلك يستدعي القارئ إسقاط الشعر الصوفي ورمزيته عند ابن عربي وابن الفارض، وإن اختلف الاتجاه الفكري بين الرمز الصوفي الذي يرمز إلى الذات الإلهية. أمّا عند خوجة فهو يرمز إلى التكوين الفكري الواقعي المعاصر الذي يلامس آمال إنسان اليوم، ويكشف عن مطالبه وأمانيه، سواء كانت حرية أم رفاهية أو أماني اجتماعية، كل ذلك يدركه المتلقي من خلال قراءة الديوان. وهي خاضعة لتلاقي الفكر لعالم الشعر في الوطن العربي، والعالم من حولهم فهم ينشدون تذليل العقبات التي تعترض الفرد والمجتمع، بل الإنسان وحريته، فالشعر في صراع دائم. والشاعر خوجة تألق وأبدع في قدرته على التمثيل المعاصر لإنسان اليوم، فهو مثقل بوجدانه، وهو يحمل هاجس مجتمعه، وهو ينبض من النبع الذهني متعدد التكوين، ومتعدد الرغبات والأهداف تجاوبًا مع تنوع الغايات لهذا العصر. فشعره له القدرة على التوصيل رغم المثاقفة والتعددية والازدوجية، لكنه اتخذ الفيض الوجداني سبيلاً له، وقد أعلن فلسفته في الحب: فكي وثاقي يا حبيبة فالهوى في عرفنا لا يكون وثاق * أكاديمي ورئيس نادي تبوك الأدبي