لا نعتقد أن ثمة مهرباً من الحديث في مسألة (تبيئة) المعرفة التي تطرّقنا إليها في مقال الأسبوع الماضي. ورغم اعتقادنا بأن هذا الأمر ضروريٌ، وهو من طبيعة الأمور في كل زمان ومكان، إلا أن الحاجة إليه لا تظهر كما ظهرت في العقد الأخير من الزمان. فمع نهاية الألفية الميلادية الثانية، كان الظنُّ سائداً بأن الرؤية المعرفية التي تشكّلت وتطورت في الغرب أصبحت نوعاً من الحتميات التاريخية. بمعنى أن تبنّي تلك المعرفة، وما نتجَ عنها من أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، صار لدى الكثيرين شرطاً لازماً لأي عملية تنمية أو تطوير للواقع البشري في أي مكانٍ على هذه الأرض، وبغضّ النظر عن أي مقولات تتعلق بالخصوصية والاختلاف الثقافي. وفي العالم العربي تحديداً، اختفت إلى درجةٍ كبيرة محاولات البحث في الموضوع بين أوساط الأكاديميين والمثقفين، ووصل الأمر إلى ما يُشبه الإرهاب الفكري في بعض الأحيان. فأن تتحدّث عنه يعني بالضرورة تصنيفكَ في خانة (الرجعيين) الذين لا يزالون يتحدثون عن (الخصوصية) في زمن العولمة، أو (الإسلامويين) الذين لا يزالون يعيشون أوهام الخلط بين الدين والدنيا، أو (الماضويين) الذين لا يعيشون عصرهم وزمانهم. وتمّت عملية خلطٍ كبيرة للأوراق، فلم يعد ممكناً لك أن تُقارب هذا الموضوع، وتظلّ في الوقت نفسه معاصراً وتقدمياً وداعيةً إلى الانخراط في الحياة البشرية بكل حيوية وطلاقة. ولم يعد مسموحاً الجمعُ بين الإقرار بمساحات الإنجاز الضخمة في التجربة البشرية الناتجة عن الرؤية المعرفية الغربية، والمطالبة في نفس الوقت بمراجعتها والبحث عن إمكانية المشاركة الجذرية في معالجة إشكالاتها والتعامل مع سلبياتها. لكن العالم بأسره شهد في السنوات العشر الماضية جملةً من الكوارث والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانت في جانبٍ كبيرٍ منها ناتجةً عن الرؤية المعرفية التي نتحدث عنها. وتصاعد النقد، وإن بشكلٍ نسبي، لجوانب من تلك الرؤية في الغرب نفسه، لكن (التابو) ظلّ مستمراً في العالم العربي. صحيحٌ أن انتقاد أمريكا والغرب من مدخل (السياسة الخارجية) أصبح شائعاً، إلا أن المسألة توقفت عند هذا الحدّ حتى لدى الذين ينتقدون، ولم يشهد الواقع العربي جهداً مؤسسياً علمياً يتعلق بمراجعة قضية المعرفة بجميع أبعادها. صحيحٌ أن مركز دراسات الوحدة العربية كان ولا يزال يلامس هذا الموضوع على استحياء، إلا أن من الواضح أن إنتاجه الفكري لم يتمحور حوله في نهاية المطاف. المفارقة أن العقد الأول من الألفية الثالثة شهد هدوءاً نسبياً في جهد مؤسسةٍ يمكن القول أنها كانت أكبر تجربة مؤسسية حاولت العمل في مجال تبيئة المعرفة بجميع عناصرها، وعلى امتداد أكثر من عقدين من الزمن، وعبر أساليب وجهود متنوعة نظرياً وعملياً، وبنوعٍ من المنهجية والجدّية والمثابرة يندر أن نرى مثله في المؤسسات الأهلية العربية والإسلامية، سيّما حين نتحدث عن العمل في حقل الفكر والثقافة. فقد بدأ المعهد العالمي للفكر الإسلامي عمله مع بدايات العقد الثامن من القرن الميلادي الفائت، وتمحورت جهوده الكثيفة حول مراجعة المسائل المتعلقة بالمعرفة (مصادرها ووسائلها وغاياتها..)، حيث تركّز البحث على فضاءين معرفيين، الفضاء المعرفي الغربي والفضاء المعرفي الإسلامي تحت عنوان لافت هو (إسلامية المعرفة). لكن زخم ذلك العمل تراجع بعد التضييق الذي قامت به السلطات الأمريكية على المؤسسة، التي كان فرعها الرئيسي في واشنطن، بعد أحداث سبتمبر عام 2001م. هذا رغم معرفة تلك السلطات بأن طبيعة عمل المعهد فكريةٌ وثقافية بحتة، ورغم أن الجزء الأكبر من النشاطات كان يجري في العالمين العربي والإسلامي من خلال المكاتب والمؤسسات التعليمية الموجودة فيهما. من الواضح طبعاً أن العنوان الذي اختارته هذه المدرسة الفكرية خلقَ ويخلق حساسيةً لدى الكثيرين، خاصةً لدى الذين يرفضون أصلاً إدخال الوحي كمصدرٍ للمعرفة تقليداً منهم للسائد الثقافي الغربي الذي ناقشناهُ في المقال السابق. لكن آخرين ممن لا يرفضون الأمر فهموا القضية على أنها دعوة لأسلمة علوم الفيزياء والكيمياء وأمثالها! في حين ظنّت شريحةٌ ثالثة أن الأمر يتعلق بانتقاء بضعة آيات وأحاديث وإدخالها في سياق بعض الأبحاث العلمية على طريقة (القصّ واللصق).. رغم هذا، أنتجت المدرسة المذكورة تراكماً معرفياً مقدراً، لا علاقة له طبعاً بتلك التصورات، ولا نعتقد أن من الطبيعي القفز فوقه في هذا المجال. ومع أن أصحاب تلك المدرسة أنفسهم يؤكدون أن ما قاموا به هو بداية الطريق، إلا أنه كان يمثل نقلةً نوعيةً في الحياة الثقافية العربية والإسلامية من الخطأ ألا تستمرّ وتتطور وتتسعَ دوائرُ الاهتمام بها في مثل هذه الظروف. لا نتحدث هنا عن قبول أو رفض كل ما ورد في ذلك التراكم المعرفي. وإنما ندعو إلى عودة الاهتمام بالفكرة الأساسية في هذا المشروع، ليس فقط بين أوساط من يتم تصنيفهم عادةً بأنهم (إسلاميون)، وإنما في أوساط المثقفين والأكاديميين في العالم العربي على وجه التحديد. فالواقع العربي المعاصر في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الجهود المؤسسية الجدّية، وسيكون مُعيباً ألا يتمّ العمل على استمرارها وتطويرها والاستفادة منها بكل طريقةٍ ممكنة. حسناً. قد يكون طبيعياً تصنيفُ هذا الموضوع بأسره على أنه من مواضيع (النخبة). وقد يكون طبيعياً أن تكون أغلبية الشرائح على مستوى الشعوب مشغولةً عنه بهمومها اليومية. وقد نقول أن زهد الجهات الرسمية فيه أيضاً هو أمرٌ طبيعي إذا أردنا أن نكون (واقعيين). لكن كل هذا لا يلغي حساسية وخطورة المسألة، وضرورة الاهتمام بها من قبل الشرائح التي تُدرك خطورتها على الأقل، وهي شرائح موجودة في المجتمعات العربية، رغم الظروف الصعبة التي تعيشها تلك المجتمعات. ففي معزلٍ عن العمل في هذا المجال، سيكون من غير الممكن فهم السياسات الخارجية للغرب أو الشرق، فضلاً عن التعامل معها. وستبقى كل محاولات التنمية الداخلية عرجاء، لأنها لا تلامس الحاجات الحقيقية للإنسان العربي، ولا تفهم خصوصية تكوينه الثقافي، ولا تعرف المداخل النفسية والعقلية لإعادة تشكيل شخصيته الحضارية، بحيث يعود إنساناً فاعلاً يمتلك القدرة على تغيير واقعه، وعلى المساهمة في تغيير الواقع البشري نحو الأفضل وفي مختلف المجالات. * كاتب عربي