قال أبو عبدالرحمن: يحز في النفس كثيراً أن أكثر صحفنا لا تحتفل بالبحوث العلمية المشبعة، وإنما تَرُوْقها البحوث المخَّاخية التي يعتز كتابها بالبحبحة في الإنشاء؛ فإن أردت نخل ما وراء تلك الأساليب الإنشائية المطوَّلة وذلك التحذلق في الصياغة والصناعة لم يبق شيئ، وإن بقي شيئ فهو نتاج صبياني غث.. إن براعة الابتكار والتجديد التي يعتزون بها في هذه العصور في مجالات البحوث العلمية لا تتم لأكبر عقلية إذا لم يكن صاحبها واعياً لمقولات الآخرين، مقدراً لمجهوداتهم في البحث، ولن يعدم عقليات جبارة قد تفوق عقليته أو تضارعها؛ فتكون منيرة له موقظة لذهنه؛ وبهذا يعلم مزية ما قاله على ما قيل، أو مزية ما قيل على ما قاله كما لاحظ الزركشي رحمه الله.. وإن بعض الكاتبين إذا وقعت عينه على بحث مستفيض قال:(ما لنا وهذا؟!؛ فلسنا في عزلة عن تلك الكتب)؛ فبهذا الاستفهام الإنكاري يغمطون جهد الباحث في ملاحقة العبارات والأفكار في نوادر الكتب.. وما كان منها مظنوناً به أو بعيد المنال؛ فالباحث المتأخِّر زمنًا يُمِرُّ خيط الموضوع من شتى العبارات، أو يخلصه من بطون الأسفار..وأيضًا فما كل من اقتنى الكتب يجيد البحث، وإن للبحث العلمي المشبع المستفيض تَبِعَة لا يُقدِّرها إلا المنصفون، ولعلِّي لا أستطيع الدفاع عن جهد الباحثين بأكثر مما قاله من أعتز بإمامته ومن له الفضل بعد الله في توجيه حياتي العلمية..ألا وهو مفخرة المسلمين الإمام أبو محمد علي ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى؛ إذ قال: (التآليف السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها: إما شيئ يخترعه لم يسبق إليه، أو شيئ ناقص يتمه، أو شيئ مستغلق يشرحه، أو شيئ طويل يختصره دون أن يخلَّ بشيئ من معانيه، أو شيئ متفرق يجمعه، أو شيئ مختلط يرتبه، أو شيئ أخطأ فيه صاحبه يصلحه)، وهذه الدرة النفيسة استلبها القاضي أبو بكر ابن العربي، وأفسدها بالتحوير حتى لا ينسبها للإمام ابن حزم؛ لأنه رماه بكل بهتان، وبأقذع عبارة، وما القاضي بذاك في تحقيق العلم، بل هو مستميت في التقليد، ويُرجِّح باستدلال لغيره من علماء المذهب بتصرف وبلا عزوٍ تارة؛ أو بعزوٍ تارة.. وفي كلمة أبي محمد هذه ردٌّ لدعوى من يقول:(ما ترك الأول للآخِر شيئاً)، وقد حفظت عن شيخ الأدباء الجاحظ قوله:( إذا رأيت الذي يقول: ما ترك الأول للآخِر شيئاً فاعلم أنه لا يريد أن يفلح)، وإن من مارس البحث يدرك هذه الحقيقة إذا أراد كلمة فصل في أي مسألة جزئية من شتى أنواع المعارف؛ مما يدل على أن الأوائل قالوا كثيراً وفاتهم أكثر، وأن العلم ليس وقفاً على سابق دون لاحق، وأن إمدادات العلم لا تجف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والوقفة السادسة: أن (تجديد الفكر) ليس على إطلاقه؛ لأن فيه ثوابت، ولأنه فطرة الله، وقِسمته المشاعة بين خلقه؛ وإنما التجديد بالإضافة مثل فكرٍ في مسألة شاع عن عالمٍ من العلماء؛ فتلقاه مقلدوه، وأصبح فكره تاريخيًا لفئة بَيْد أن التحقيق العقلي ينفيه؛ فالرجوع إلى ضرورات العقل استئناف للصواب، وتجديد له بمعنى كونه حقًا غائبًا عن تلك الفئة فأحضرتَه لها بالبرهان الغلاَّب. والوقفة السابعة: أن مثل ذلك (تجديد الفقه الإسلامي) لا تجديد شرع الله؛ فنحن نتجدَّد معه؛ والفقه الإسلامي منه ما هو قطعي المراد فلا نحول عنه، ومنه ما هو رجحاني المراد فلا نحول عنه ما ظل الرجحان قطعيًا، ومنه ما هو ظني أو مرجوح، وبعضه من المسكوت عنه شرعًا رحمة بنا غير نسيان، ومنه ما هو استماتة في التقليد عند أهل مِصْر أو أمصار؛ فهذا موضع التجدُّد مع البرهان بعد التنقيب في البحث، وبذل الوسع في الاجتهاد، وتلاقح العقول بالنقاش مع الأكفاء. والوقفة الثامنة: لسنا نعاني من تراثنا صعوبةَ وعُسْرَ أو تعذُّر الفهم إلا في مثل بعض مسائل أصول الفقه وعلم الكلام، وليس الشاغل أن نستحضر الماضي في ثوب عصري، وكلمة (ثوب عصري) مضلِّلة؛ -بصيغة اسم الفاعل- وإنما المعاناة من تراكم التكرار.. وإيضاح العلم وتسهيله وبسطه مطلب لمن أراد من المعاصرين استئناف التأليف عما كتبه الأسلاف، وأراد أن يتحاشى التراكم التكراري؛ فالثوب العصري ههنا هو اللغة المبينة والتسهيل والبسط، وتحقيق الاستدلال معارضة وبرهنة وتحرير محل النزاع..على أن هذا فوق الجهد الفردي، وحسب طالب العلم أن لا يخوض إلا فيما حقَّقه بعلم من مسائل وإن كانت قليلة، وينشرها بالصفة المذكورة، ويوالي نشر ذلك على مهلٍ كتابةً ومشافهة.. والثوب العصري جملة تُحتمل في مسائل الشريعة أن نجرَّ أحكام ربنا إلى روح العصر في لباس ثوب العصر، وليس للعصر ثوب واحد، ولا روح واحدة؛ لكثرة الأهواء والمآرب؛ وإنما دين ربنا حق ثابت في أحكامه أو أخباره؛ فالأحكام على ثلاثة أنحاء: أولها: أحكام نص الله عليها كالصلاة المعهودة شرعًا؛ فهذه فيها ثوابت لا تتغيَّر في أي عصر أو مصر كالركنية والوقت والأعداد.. وفيها خلاف في مسائل جزئية كوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود أو العكس، وقد اختلف العلماء في ذلك، والاجتهاد باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فيتناولها وأمثالها ذوو الأهلية في هذا المجال بنزاهة وصدق مع النفس في تحري مراد الله من ناحية إسقاط نص لعدم ثبوته، أو إظهار مرجوحيته لعللٍ ظهرت فيه، أو الجمع الصحيح؛ فمثلاً تقديمه العام على الخاص بلا برهان إسقاط للنص الخاص، والأخذ بالخاص استثناء من العموم، وهو من شرع الله، ولا بد من سعة الاستقراء وجودة الفهم والتمييز.. وهناك أحكام شرعية ثابتة لفاحشة يُشترط فيها إقرار أو شهادة أربعة من العدول.. وقد استجد في العصر الحديث وسائل تكشف عن وقوع الفاحشة بدون إقرار ولا شهود؛ فلا يجوز استخدامها للإثبات؛ لأن الله شرع الستر في هذا، وشدَّد طرق الإثبات وعيَّنها ؛ فلا نتعدَّى ما حدَّده الله.. وهناك حقوق لبني آدم كقتل النفس بغير حق، واستجد في العصر الحديث وسائل جديدة تكشف عن الجريمة منها قطعية فيؤخذ بها قضاء، ومنها رجحاني يقتضي التعزير، ويقتضي جمع قرائن ومرجحات تجعل الراجح قطعيًا. وثانيها : أحكام نص الله على أحكامها بالمعنى والوصف لا بالاسم كالقصاص في الاعتداء ؛ فالاعتداء وصفًا يشمل القتل وقطع اليد والضرب والإحراق والإغراق والسم والشتم ؛ فيطبق القصاص إلا ما استثناه الشرع كالمثلة وأن لا تشتم من شتمك.. ولا بد في كل اجتهاد من ( دليل تصحيح ) يُعَيَّن صحة المراد من دلالة اللغة الواسعة، وكل اجتهاد ليس في نتيجته دليل صحة من لغة العرب فهو افتراء على شرع الله، ولا بد من ( دليل ترجيح ) من الشرع.. وما أحال إليه الشرع من مصادر يُعيِّن المراد الشرعي بيقين أو رجحان، ولا يقدر على ذلك إلا فحول العلماء أهل العدل والنزاهة في التعبد لله وَفْق ما ظهر لهم من مراده.. وأما المثقف والصحفي الذي لا تخصص له إذا وضع إصبعه على صدغه وقال : ( أنا والله رأيي هكذا ) فهو ظالم لنفسه وظالم لدين ربه. وثالثها : شيئ سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان ؛ فهذا ليس على الإباحة بإطلاق، وإنما أباح الله لمواهبنا ووسائلنا أن نجتهد فيه بنزاهة في دائرة المقاصد الإسلامية، ويدخل في هذا الوقائع المستجدة كعلمنا المستجدِّ على أسلافنا بأن بعض البلدان لا تطلع فيها الشمس سوى ساعتين مثلاً ؛ فليس في وقت الصلاة نص في ذلك، والشرع يقتضي أداء الصلاة في وقتها، ثم امتحنَّا الواقع بحواسنا وعقولنا فلم يتعيَّن لنا غير التوقيت بالمواقيت في ديار المسلمين بمعرفة ما بين الظهر والعصر من الزمن.. إلخ ؛ فتقدَّر الصلوات بالساعات والدقائق على هذا النحو في تلك البلدان.. ومثل ذلك ( عقود التأمين ) ؛ فالأصل في ديننا صحة العقود إلا ما أحل محرمًا أو حرَّم حلالاً ؛ فنفحص كل عقد للتأمين فما كان فيه من غرر أو جهالة أو ربا أو أكل مال بالباطل فلا نستبيحه، ويستثنى من ذلك ما قضت به ضرورة كدولة ليس عندها طعام رئيسي [ إنما تستعمل الرئيس بلا ياء إذا كان رئيساً وحده ؛ فأغنى الوصف عن ياء النسب ]، ولا سبيل لها لشرائه إلا من دولة تفرض عقود التأمين كالتأمين على أخطار الطريق.. على أن تعمل الدولة مستقبلاً على التخلُّص من الضرورة حسب الإمكان، ومثل ذلك طالب في ديار الخواجات والسيارة ضرورية له ولأهله، وعقد التأمين أمر تفرضه الدولة. وفي دين الله أخبار لا أحكام، وإنما حكمها التصديق بها إذا صح الخبر دلالة وثبوتاً ؛ فما كان من الأخبار مُغيَّبًا إلى يوم القيامة فلا دخل لروح العصر فيه إلا التصديق ؛ لأن الذي عند أهل العصر عدم العلم الحسي، وليس عندهم العلم بالعدم، بل عندهم ما يلزم العلم بوجوده على الصفة الشرعية ؛ لأن البراهين من الأنفس والآفاق قامت على تقديس الرب ووجوده بصفات الكمال المطلق ؛ فنتج عن ذلك عصمة خبره وصدقه.. ومنه خبر عن وقائع حصلت أو أدركناها في عصرنا ؛ فيكون ذلك أداتنا في تصحيح خطأ قد نجده في كتب السلف لتفسير الخبر وتحديده، أو نقص في التفسير لقصور العلم عن المخبر به. والوقفة التاسعة : الأعم الأغلب أن فحول العلماء الربانيين أهملوا الاجتهاد ولم يغلقوا باب الاجتهاد، وذلك قبل خمسمئة عام بقرون، والدكتور حددها بخمسة قرون، بل كان ذلك منذ استقرار المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة، ومنذ استقرار المذاهب العقدية كالأشعرية والكلاَّبية والماتُريدية والاعتزالية، وظل التديُّن يتجدَّد بالطرق الصوفية، وصرف هؤلاء العلماء الربانيون الفحول علمهم ومواهبهم في تحقيق مقاصد إمامهم، ونصر مذهبه على دعوى أنهم أخذوا بجملة المذهب اجتهاداً، وهذا محال ؛ لأن العلم والتخصُّص والعصمة ليست مجموعة في مذهب إمام بعينه.. ولو صرفوا علومهم ومواهبهم لتحقيق النصوص الشرعية، والرجوع إلى أهل التخصص الاستقرائي فيما لم يتخصَّصوا فيه بصفة الاستقراء ؛ وإنما وُجِد نُزَّاع سلكوا مسلك الاجتهاد كالأئمة ابن حزم وابن عبدالبر وابن الوزير والشوكاني. والوقفة العاشرة : أن ما ذكره الدكتور عن إحصاء الشيخ المراغي رحمه الله 6236 آية تحتمل التأويل و 236 آية لا تحتمل التأويل مجرد دعوى يحتاج ثبوته إلى استقراء وتعيين.. ثم إن التأويل المفتقِد دليلي التصحيح والترجيح هو تحريف الكلم عن مواضعه المحرَّم شرعًا، وهو الذي جرَّأ أمثال ابن طفيل وابن رشد الحفيد إلى تأويلات تجعل الشرع خطابًا للعامة، وأن ما يفوق مداركهم متروك لمواهب الخاصة بقوانين المنطق الأرسطي، وعلم الكلام الذي يُعدُّ كثير منه من الجنون الفكري.. والتأويل المعروف في لغة العرب المستعمل شرعًا هو معرفة مآل الكلام بشواهد اللغة والشرع مثل الجمع بين النصوص الصحيحة ؛ فنعلم مآل الخبر عن أهل النار يوم القيامة بأنهم لا ينطقون، وأنهم ينطقون ويتخاصمون بالأخبار الصحيحة الأخرى عن أحوال وأزمان الآخرة ؛ فإذا اختلف الزمان ارتفق التعارض.. ومثل علمنا بمآل قوله الله تعالى : ( لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه لكان غير ظالم لهم ) بأن المراد المكلفون، وليس كما قال بعض العلماء : ( إن كل ذلك ملك ربنا سبحانه وخلقه يتصرف فيه كما يشاء ) ؛ فهذا حق بقدرته جل جلاله، ولكنه لا يعذب أحدًا إلا بذنبه ؛ لأن الله حرَّم الظلم على نفسه وهو قادر،وحرمه على عباده الذين هم خَلْقه وملكه، وما حرم الظلم على نفسه سبحانه إلا والمراد بالمحرَّم عليهم وقوع الظلم منه سبحانه مَن هم ملكه وخلقه.. وهذا التقييد بأن المراد المكلفين ليس رجمًا بالغيب، بل قام برهانه من صحيح اللغة بالسياق ؛ لأن في سياق الحديث : (ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من عملهم) ؛ فهم مكلفون، وقام برهان الترجيح من الشرع أن في السموات عبادًا لله مكلفون وهم الملائكة عليهم سلام الله وبركاته كما في قوله تعالى:(وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)[ سورة الأنبياء/29 ]، وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم/6]، وأما ما ذكره من اجتهاد الشيخ محمد عبده والدكتور محمد البهي رحمهما الله فحكمهما حكم غيرهما من العلماء إذا كان تفسيرهما على نهج ذوي العلم الربانيين؛ وحينئذ ينظر فيه ببرهاني التصحيح والترجيح.. على أن في تفسير المنار الذي نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن الشيخ محمد عبده رحمهما الها تعالى مالا يقبل، ومنه ما هو رجم بالغيب بلا علم، وهكذا تفسيره جزء عمَّ كتفسيره طير أبابيل بالجدري !!.. ولست أدري في أي مكان من لغة العرب أن الجدري (حجارة)، ولا في أي حس أن الطير تحمل حجارة الجدري ؟!!.