أصيب العالم العربي والإسلامي يوم السبت بوفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أحد كبار مراجع الشيعة في عصرنا الراهن، وأحد أهم الأصوات الداعية إلى الوحدة بين المسلمين بعيدا عن الثارات التاريخية التي لا زالت تحرك حياة كثير منهم وتبلور أفكارهم. عندما التقيته رحمه الله عام 1992 من خلال حوار صحفي مطول، فوجئت برجل يجمع بين الفيلسوف والفقيه والشاعر والسياسي، وهي مزايا ندر أن تجتمع في شخص واحد، لاسيما في عصرنا الراهن. من يقرأ مقاربات الراحل الكبير الفقهية والفكرية يشعر أنه إزاء رجل يحمل هاجس وحدة الأمة، وهاجس البعد الإنساني للإسلام بعيدا عن المقاربات المذهبية الضيقة، ولو طال به العمر لقدم المزيد من تلك المقاربات التي تتجاوز السائد وتفتح الباب واسعا أمام فكر من نوع مختلف. خلال العقدين الأخيرين من مسيرته الحافلة، واجه السيد فضل الله الكثير من العنت بسبب مقارباته الفكرية الجديدة، وتكاثرت السهام عليه عندما جمع بين تلك المقاربات وبين إعلان نفسه مرجعاً تقليدياً، رافضا بذلك مرجعية المرشد الإيراني علي خامنئي التي اعتمدت من قبل حزب الله بعد وفاة الإمام الخميني (كان السيد قبل ذلك قد اشتهر بوصف المرشد الروحي لحزب الله)، الأمر الذي باعد بينه وبين الحزب، وإن ساهمت زعامة السيد نصر الله الواعية في نزع فتيل ذلك النزاع، مع العلم أن كثيرا من أتباع الحزب كانوا يعتمدونه مرجعاً تقليدياً خلافا للقرار الرسمي (القرار يبدو مفهوما بسبب الدعم الإيراني اللامحدود)، الأمر الذي ينطبق على كثير من شيعة الخليج، وإن لم يقترب عدد مقلديه من حجم ما يحظى به السيستاني على سبيل المثال. في هذا السياق استغلت بعض آراء الراحل التاريخية والفقهية في التحريض ضده، مثل موقفه من بعض الروايات التاريخية الشيعية السائدة (واقعة ضرب الخليفة عمر بن الخطاب للسيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال)، فضلا عن رفضه لبعض الممارسات الشعبية السائدة كاللطم والتطبير. في سياق آخر كان الرجل واضحا في رفض لغة التكفير التي تسود بعض الأوساط الشيعية حيال السنة، حيث أكد أن الإيمان بالإمامة ليس من أركان الإيمان كما يذهب كثيرون، وإنما من أركان المذهب، وهو رأي بالغ الأهمية في تهميش تيار التكفير في الوسط الشيعي، فضلا عن رفضه لسب الصحابة وأم المؤمنين عائشة. من الجوانب البارزة في شخصية السيد فضل الله، ما يتعلق ببوصلته السياسية، فقد كان رحمه الله واضح الانحياز لبرنامج المقاومة، ليس في لبنان فحسب، بل في العراق أيضا، بينما كانت فلسطين محور اهتماماته، والقضية التي لا يكلّ ولا يملّ في تبنيها والدفاع عنها. لم يكن في يوم من الأيام إلا ضد الظلم ومع مقاومته، وكان بعده الإنساني يجعله أقرب إلى تيارات المقاومة في كل مكان، كما كان داعيا إلى مساندتها بكل وسيلة ممكنة، ولم يؤد الخلاف الذي دار لبعض الوقت بينه وبين حزب الله على مسألة المرجعية إلى اتخاذه مواقف تخالف رؤيته تلك. هكذا تكون خسارة الأمة بوفاة السيد فضل الله كبيرة، لاسيما أن تياره لم يتجذر تماما في المعسكر الشيعي (هناك تيار تكفيري في الوسط السني أيضا)، بخاصة بعد الوضع البائس الذي أفرزته الحالة العراقية، وربما بعض المواقف الإيرانية التي لا تأخذ حالة الحشد المذهبي في المنطقة بنظر الاعتبار، فتميل إلى بعض أشكال التبشير المذهبي التي تثير الحساسيات. ولا قيمة بالطبع للقول إنها تتم من قبل تيارات لا صلة للسلطة بها، مع أننا نرفض المبالغة في هذا الأمر على نحو يسيء إلى مذهب السنة، ويظهره بالمذهب الهش الذي يمكن التلاعب به بسهولة، وهو الذي ظل مذهب الغالبية الساحقة من الأمة على مرّ القرون. على أن موت السيد فضل الله لا يعني أن المسار الذي اشتغل عليه قد انتهى، فهو سيبقى حاضرا بأفكاره وكتبه، فضلا عن أن رؤاه لم تذهب هدرا، بل وجدت لها فضاء لا بأس به بين الناس، وسيحملها آخرون وصولا إلى اتساع تيار الوحدة والتسامح بين أبناء الأمة.