مؤلم جدًا هذا الذي يحدث لمجتمعنا! خسارة فادحة ان يكون مجتمعنا على هذه الحالة! وعندما أقول (مجتمعنا) فإني أقصد -تلمسًا للموضوعية- الشريحة الأكبر من أفراد ذلك المجتمع. أمّا الشريحة الصغيرة (الباقية) فهم الذين منحوا منهجية صحيحة في التفكير، واكتسبوا وعيًا انسانيًّا قادرًا على وضع الأمور في نصابها الحقيقي، والحكم على الأشياء بمرجعيات ذهنية (سليمة)، وصياغة ذواتهم بقيم الدين الخالص والمعرفة المنتجة وأخلاقيات الانسان الرفيعة التي تنظم علاقاته مع الموجودات والآخرين على أساس التسامح والود والاحترام واستيعاب المختلفين في الأفكار والتقاليد. كما ينتمي إلى هذه الشريحة الصغيرة، الذين اعتادوا على القراءة والبحث ممّا استغنوا بمكتباتهم الثرية عن الارتهان لمقولات (فلان وعلان)، إلى أن نصل مع تلك الحالة القرائية البحثية المستقلة لنموذج الانسان/ المثقف الذي يتكئ على مرجعيات معرفية شتى تمنحه فرصة التفاعل المنشود مع غايات الدين وأهداف المعرفة الخلاقة. ومع ذلك فلا زلت أقول إن وجود الانسان (الواعي) بالغايات الحقيقية للدِّين وشروط الخلافة (مناط التكليف الإلهي على هذه الأرض)، الزاخر بالاخلاقيات الانسانية الرفيعة يظل مطلبا أوليا وحاسما قبل الخوض في تعب البحث عن المثقفين وسط ذلك المجتمع الذي يقوض نفسه بسعادة غامرة! ليتنا بالفعل وجدنا ذلك الانسان في مجتمعنا قبل أن نظل نحلم بتزايد اعداد المثقفين، مع ان ذلك الحلم يظل مشروعًا لأمة لاتريد ان تظل على هامش الأحداث.. لأمة “كان الكون مسرحها * فأصبحت تتوارى في زواياه”! أعود إلى (مجتمعنا الأكبر) الذي تزداد أزماته الفكرية يومًا بعد يوم، ويترسخ خواؤه الذهني فتوى بعد فتوى، وحكاية بعد اخرى إلى اللحظة المريرة إياها الذي فجرها -بحقه في التفكير وإبداء الرأي- إمام جامع الملك خالد بالرياض الشيخ الكلباني في رأيه المشروع حول مسألة الغناء.. ليزداد الخواء الجمعي -كما أزعم- عميقًا عميقًا، إذ المسألة لدي ليست مجرد قضية شائعة أو فتوى عجيبة أو غناء وموسيقى، وإنما حقائق مؤلمة سأكون صادقا مع نفسي ومعكم في مقاربتها -شهادة لكاتب لطالما هجس ببلاد (يبكى لها) وليس (عليها) كما تذكرون- كالتالي: 1- خطاب النجومية في مجتمعنا يتداوله بانتظام الخطاب الرياضي والخطاب الشعبي بتجلياته المتنوعة والخطاب الديني الافتائي، ولا شك أن مجتمعًا يكتفي بتلك الخطابات عن خطابات أخرى ثقافية ومعرفية وعلمية يظل في مدارات ضيقة بعيدًا عن مسارب الحضارة وفضاءات الكون الرحيب.. 2- الغناء بآلة (موسيقى) وبغير آلة مسألة اختلافية ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الاسلام منذ العصور الأولى، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخرى، وبالتأكيد فإن طالبًا في المرحلة الثانوية يستطيع الكشف عن تجليات هذه المسألة بكل بساطة. لم نكن نحتاج فعلا إلى كل ذلك الضجيج! وبالتالي فعندما يقرر أحد علمائنا الأجلاء بأن “القائل أخيرًا بإباحة الغناء لا يحق له القول برأيه في هذه المسألة بكونه مقرئًا وإمامًا لأحد المساجد فحسب” فإن ذلك يعد ضربًا من الوصاية المقيتة على عقول عباد الله بلا وجه حق (فما هي تلك المسألة الهائلة التي يعد التفكير فيها مقصورًا على أشخاص بعينهم؟!) 3- أما المجتمع الذي لا يجد نفسه إلا تحت وصاية هؤلاء الأشخاص، فإن أفراده ليس لهم -بتلك الذهنية النمطية- قيمة في ذواتهم بقدر ما هم نسخة عن أصول تسبقهم وعقول تفكر عنهم، ليظل الفرد لدينا مجرد أداة تسخر لخدمة النموذج الواحد الذي أقره (من هم وحدهم أبخص!) منذ زمن، وليس لأحد مراجعته (لظروف تاريخية ما)، والمجتمع الذي يكون أفراده مجرد آلات يتحول إلى مجتمع للعبودية بعيدًا عن تلمس الحرية التي ينشدها كل انسان خالص، إذ نحن هنا إزاء تأليه للأسماء والمقولات يولد القمع والاستبداد والعنف باسم (السلفية) التي صاغها الخلف بطريقة بعيدة عن المنطلقات السامية التي انطلق منها علماء السلف الأجلاء أنفسهم! وبالتالي فإن الأصوليات المعرفية التي تواطأت نخبة على ترسيخها.. بسبب انها تظل المبرر الشرعي لوجودهم من الأساس تتعامل مع الفرد بوصفه ذا هوية مسبقة ومتعالية ونهائية، ومشرعوها هم من ختم على عقولهم ووجدانهم بتوقيعات أبدية ليمارسوا -بدورهم- ختم أختامهم على عقول الآخرين، لتكون المحصلة هي الاستقالة من التفكير النقدي الحر، لأن المهمة الوجودية الأولى تصبح المحافظة على تلك المقولات إيا كانت هشاشتها وأهميتها، واستبعاد كل المقولات التي لم يقع عليها الاختيار منذ البداية، وإقصاء كل ما تولده التجارب الفقهية الحية من التنوع والثراء، بداعي احتكار المعنى وممارسة الوصاية على الأسماء والنصوص. وبالتالي فإن مجتمعا بهذه الأختام لا ننتظر منه أي شاهد حضاري منتج.. لا ننتظر منه شيئًا ذا قيمة (على الاطلاق)! حتى الممارسات التي حلمنا بها ذات لحظة أمل.. المسرح.. السينما.. الفنون الجميلة.. النظرة المتزنة للمرأة.. قيم الحوار.. التسامح.. التكافل الاجتماعي.. يبدو ان بيننا وبينها مسافات شاسعة من المفازات المتصلدة! 4- الناجح الوحيد في مشهدنا الجمعي هم الذين أيقظونا من (صحوتنا) التي كنا نتهيأ في صباحاتها لممارسة حقنا في المعرفة والعلم والجمال قبل ثلاثين عامًا، ليوقظونا على نوم عميق لم تنفع معه حتى الآن أجراس المدارس ومنبهات الثقافة ومراكز (الحوار الوطني)!! 5- هذا المجتمع (المختوم) لم يعد قادرًا على تمييز الأشياء، فهو في اللحظة التي يشتط غضبًا وقسوة وعنصرية وعنفًا على من تسامح مع مسألة تنسجم مع عطش الانسان لمعانقة الأصوات الجميلة نجده في قمة الوداعة وصمت العذارى أمام العلماء أنفسهم الذين منحوا البنوك الشرعية الدينية للقروض المغرية التي أنهكت كاهل مواطنينا بالملايين بلا رحمة ومصداقية، وأمام العلماء الذين كانت آراؤهم وفتاواهم -ولاتزال- تحكم في كل مرة بإباحة دم القائلين بالرأي الآخر، ومصادرة الآراء و(الحجر) على العقول وإغلاق المؤسسات العلمية الحقيقية، وأمام العلماء الصامتين عن الأزمات الحقيقية التي يعاني منها المواطن كالفساد الاداري والقفز على أكتاف (المتوسطين) والبطالة وأنانية رجال الأعمال، وارتفاع نسب الطلاق والجريمة والعنف في بلادنا. 6- بقاء التصادم على ما هو عليه بين خطاباتنا على اختلاف أشكالها، ففي اللحظة التي تتبنى مؤسسة الثقافة والاعلام إقامة معرض دولي للكتاب يصادر ذوو الأختام -إياهم- ما لا يروق لهم من إصدارات وحكايات، وفي اللحظة التي تتكرر كل عام بحضور ولي أمر البلاد، خادم الحرمين الشريفين مهرجان الجنادرية الشعري الغنائي برعايته الكريمة وفكره المعتدل محييًا فناني البلاد واحدًا واحدًا لايزال أصحاب الأختام العتيقة يقلبون كتاب (الأغاني) صفحةً صفحةً..!