تلقيت دعوة كريمة لحضور العرض المسرحي «ذلكم الشيطان» وقد كنت طوال الطريق أبني هامشًا متخيّلًا لهذا العرض بحكم معرفتي المسبقة بمخرجه وكاتب نصه. فكرة المسرحية ببساطة تجسّد لنا حبائل الشيطان عبر مشاهد عدة استهلها (محمد إسماعيل) كاتب ومخرج العرض بأن زرع لنا الشيطان على خشبة المسرح ليقنعنا من فوقها أنه لم يكن له من ذنب ويحاول جرّنا إليه متوسلًا بلاغة السؤال، يساءلنا لماذا نحن نقف منه موقف الضد؟ لماذا نتناسى أنه كان من المقربين لرب العالمين؟! لماذا لا نتذكر أننا نحن السبب في شقائه، فقد كان ينعم بالرضا وبالقربى حتى خلق الله هذا المخلوق. الشيطان يمد جسور التواصل معنا عبر طرح فكري ومساءلة تبدو ناضجة وهادئة وتخاطب فينا العقل: هل من يعتز بما أنعم الله به عليه مخطيء؟ ينادي فينا من فوق خشبة المسرح العقول، ويحرّضنا على التفكير معه، يضعنا أمام تساؤلات منطقية.. هل من يعتز بما يملكه، يستحق أن يزجر؟ يؤكد أن هذا ما فعله، فقد أبى أن يسجد لمن هو أقل منه، هو مخلوق من نار، وهو يعتز بهذا، ويفتخر، يكرر الوعد والعهد بأنه سيغوي كل من يستجيب له، وسيجر كل من يتبعه إلى المزالق، فقط لأنه أُخرج من الجنة بسببنا. وكأن العرض بهذا المشهد الافتتاحي يريد أن يصوّر لنا قدرة الشيطان المهولة على قلب الحقائق وقدرته على سوق الحجج المقنعة (حيث إنك وأنت تستمع لحديث الشيطان، وهو يورد الحجة تلو الحجة لابد وأن يتسرّب إلى نفسك شيء من التعاطف قبل أن تثوب إلى رشدك على صدى تحدياته وغطرسته المقيته). وبهذا الأسلوب أقنعنا هذا العرض من أول مشهد أن للشيطان حيله وحبائله وقدرته العجيبة على التأثير. كل هذا قيل على الخشبة بأسلوب بعيد عن الوعظ والإنشاء والخطابة، بل عبر فعل ورد فعل، وقد استعان المخرج بالسينوغرافيا والإضاءة لكي نعيش أجواء العرض عبر توهج الإضاءة وخفوتها التي خلقت فرجة بصرية ومشهدية معبّرة. ولإيصال المفهوم؛ توسل العرض تجسيد مواقف حقيقية على الخشبة لإيضاح كيف هي حيل الشيطان وألاعيبه للإيقاع بابن آدم. فهو يخرج لذلك الزوج الغاضب القابع على كرسي في صالة منزله، فيخرج عليه الشيطان من خلف الكرسي ليقنعه باستماتة، ويحاوره على خشبة المسرح ويصر عليه حتى طلق زوجته؛ ليطلق الشيطان لحظة إلقاء الزوج كلمة الطلاق على زوجته ضحكة مدوية. وهو خلف ذلك الشاب الذي كان على علاقة بفتاة، وأوشك على قطع علاقته بها، لكنه خلفه يسير ويزيّن له فعلته ويملؤه فخرًا واعتدادًا بنفسه حتى يعيد تواصله مع فتاته ويغرقان في بحور من اللذة. ولأن الشيطان جاد في عمله لا يتراخى عن مهمته؛ فإنه يستدعي أحد الشياطين من معاونيه.. يسأله عن منجزاته لهذا اليوم، ويستفسر منه عن الوضع العام، ومدى إنجازه وبقية زملائه لمهمتهم المنوطة بهم (إغواء بني البشر). الشيطان المُستجوب يطمئن الرئيس أن الوضع من حسن إلى أحسن، وأن المهمة تزداد سهولة مع تقدم الزمن في ظل وجود وسائل معينة لهم على أداء المهمة -تتجدد باستمرار- كما يقول. في هذه الأثناء يظهر صوت بائع الخضار ينادي على بضاعته، يبحثان عنه؛ فهو (فريسة جديدة) ليجداه في «ركن المسرح» فيجتمعان عليه، يوسوسان له بالغش أمام كساد السوق، لكن هذا البائع المسن يفرّقهما بالذكر (في إشارة واضحة لعدم تمكّن الشياطين من الذاكر لربه) ما له عليكم من سلطان، ويحاولان إخافته من الغد والجوع والفاقة وخسارة ما معه، لكنه ينجح في تفريقهما بالاستعاذة؛ ليفرّان مغادرين المسرح كل في اتجاه. المواقف تتعدّد والشياطين تحيط بالإنسان في مواقف متعددة؛ لتأتي لحظة يُسقط فيها مخرج العرض وكاتبه (محمد إسماعيل) شياطين الإنس مع شياطين الجن بتمكّن على مدير مؤسسة، حيث يقنعه موظف من شركة مقاولات برشوة مقابل التغاضي عن التدقيق في المشروع لتأتي الشياطين لتكمل مسيرة إقناعه عن طريق إقناعه بحاجته الماسة لتلك المبالغ وتصوّر له شكل المستقبل مع الملايين (حيث الثراء والرفاهية). المشهد الأخير من المسرحية قد لا أتفق مع المخرج جذريًا فيه، من حيث تخصيص القدرة على حرق الشياطين وقصرها على فئة لها مظهر معين (وقد بدا هذا المشهد وكأنه مؤدلجًا) لكنه في قمة التعبيرية، حيث يحاول الشيطان أن يقنع شابًا (يبدو عليه مظهر الالتزام) بالانحراف، وفي كل مرة يصد الشاب الشيطان بالقرآن والتلاوة والذكر، ويسقطه صريعًا بعد محاولات وشد وجذب وإغراء وإغواء بمعسول الكلام وعن طريق التوبة بعد الخطأ، وامتداح من يخطيء ثم يتوب (تلبيس إبليس)، لكن الشيطان لا ينجح في قهر الشاب الملتزم، وحصر القدرة على قهر الشيطان في صورة شاب بمظهر معين، قد يبدو مشهدًا مؤدلجًا، وتصنيفي -رغم حقيقته- لكن في الواقع بإمكان أي شخص مهما كانت هيئته أن يتغلب على الشيطان متى استعاذ والتجأ بالله من الشيطان الرجيم. أما عن المؤدين للعرض فقد كان واضحًا جدًا أنه تم إعدادهم جيدًا لتأدية العرضن وبدا أنهم يجيدون الحركة على الخشبة والتعبير بالجسد والصوت، وهم مشروعات مسرحية جيدة ينتظرها مستقبل جيد متى استثمرت هذه الطاقات. وبعيدًا عن بعض الملاحظات التي يمكن أن تكون موضع وجهات نظر عدة، خصوصًا فيما يتعلق بصورة الشيطان ومظهره وكيف نجسّده على الخشبة المسرحية، وهل من الأجدى في مثل هذه الحالة استغلال تقنية «خيال الظل» لتجسيد الشيطان، خصوصًا وأن خيال الظل أكثر تعبيرية عن «الشيطان» من التجسيد الحقيقي، وهذا ما اقترح على مخرج العرض فعله، فضلًا عن أن هناك رؤى إخراجية قد تضيف للعرض وتجعل منه أكثر ثراءً وتعبيرية، فعلى سبيل المثال كان يمكن إغناء معظم المشاهد وتوسيعها بنقل المتلقي إلى أجوائها الحقيقية، (كما في حالة البائع)، حيث كان من الممكن استخدام المؤثرات الصوتية والمشاهد المرئية لحركة السوق وصخبه وحيويته، سواءً عبر التجسيد الحي على الخشبة، أو عبر العروض المرئية عن طريق إجراء حركة بيع وشراء حقيقية تنقل المتلقي لأجواء السوق عبر المؤثرات الصوتية، أو العرض المرئي، أو حتى الاستعانة بمسرح الدروازة أو باستغلال ما تتيحه التقنية اليوم عبر النقل الحي والمباشر (لايف) من أحد الأسواق بوجود ممثل وشيطانه هناك بعيدًا عن هذه الملاحظات. العرض على وجه العموم كشف عن قدرة جميلة لدى مخرجه وكاتبه «محمد بن إسماعيل» على معالجة الأفكار مسرحيًا، وهي ميزة إسماعيل، ولعل فكرة تجسيد الشيطان على الخشبة تبدو صعبة، ومع هذا فقد نجح في توظيفها ومعالجتها بشكل جميل ومقنع، وصنع بهذه الفكرة -التي أطلقها أحد طلابه كما يقول بذلك العرض المرئي المصاحب- صنع بها حدثًا مسرحيًا، وعالج بها موضوعًا قد يبدو للوهلة الأولى صعوبة تجسيده مسرحيًا. تيّقنت من قدرات «محمد بن إسماعل» رغم أنه في عرض «ذلكم الشيطان» لم يستطع أن يكسر هامش توقعي على مستوى الموضوعات التي يناقشها على خشبة المسرح، لكنه كسرها على مستوى الفكرة والقدرة على تجسيدها، وعندما استحضرت عرض آخر له هو «المهرولون» تأكدت من قدرات محمد المسرحية، فقد استطاع وبمبضع الجراح تشريح واقعنا اليوم عبر مقاربة ومفارقة جميلة وبرؤية مسرحية ظاهرة (تستحضر إسكافيًا تنبجس عنه الأرض فجأة ويجد نفسه في عالم مختلف لم يسمع به ولم يره من قبل)، فتكاد تقتله المفاجأة مما حوله ويندهش ويكاد يفقد عقله مما يرى ويسمع، لكنه يموت غيظًا من هامشيتنا، فكان خاتمة العرض «وقفة مع عود الأسنان» المتناهي في صغره، وسهولة صناعته وتوفر مادته بين أيدينا، ومع هذا نستورده من الخارج! لذا فلديّ يقين أنه مسرحي حقيقي يمتلك النضج والرؤية المسرحية المكتملة، كما أنه يملك قدرة رائعة على معالجة أي فكرة بأسلوب مسرحي مدهش، ويمكن للأخوة في قسم المسرحية بجمعية الثقافة والفنون، وعلى رأسهم الجميل مهدي الكناني، الاستفادة من هذه القدرة المسرحية الجميلة وما يقدمه من عروض لافتة. (محمد بن إسماعيل) مشروع مسرحي ريادي، ويستحق أن يُدعم، وأن يُلتفت له، ويُذكر بالاسم، وأن يُعرف على مستوى الوسط المسرحي والشعبي، فهو مسرحي حقيقي يعرف كيف يجعل المسرح «عالمًا آخر» من اختياره، ويعرف كيف يجعله عالمًا مملوءًا بالسحر والجمال. ويجيد توظيفه كمنبر توعوي هادف وبتمكّن لافت، بعيدًا عن أي «طنطنة» مفتعلة، فهو ممن يمتلكون القدرة على توظيف المفارقة والتأملات والمشاهد والمواقف الصغيرة لخدمة قضايا كبرى. ملاحظة: جاء عرض مسرحية “ذلكم الشيطان” ضمن الحفل الختامي لمكتب التربية والتعليم ببلجرشي وقدمته ثانوية بلجرشي ضمن فقرات الحفل.