أذكر كما يذكر أبناء جيلي بعض آثار الطفرة الأولى التي أعقبت موجة ارتفاع أسعار البترول في السبعينات الميلادية من القرن الماضي، على إثر قرار الملك فيصل التاريخي بقطع إمدادات البترول عن الدول الغربية المساندة لإسرائيل في حرب 1973م. فقد وُجهت الفوائض المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول إلى مشاريع البنى التحتية في معظم مناطق ومدن المملكة، وتم تأسيس صناديق التنمية العقارية والصناعية والزراعية، فزاد الإنفاق الحكومي، وانطلقت ورشة عمل كبرى على مستوى الوطن الكبير، فحطت المعدات على شوارعنا وطرقنا، وقدمت الشركات والعمالة من شتى أنحاء العالم، للمساهمة في إنجاز المشاريع الطموحة. وتم إنجاز العديد من المطارات والموانيء، والطرق السريعة، والجسور والأنفاق، وشبكات الاتصالات والمياه والكهرباء، فشهدت الموانيء اختناقات وتكدسا للبضائع، وظلت بعض السفن أسابيع وأحياناً أشهر تتنظر دورها في الدخول وتفريغ حمولتها. كل هذه المظاهر عادت مرة أخرى خلال هذه الطفرة التي لازلنا نعيشها بفضل الله، والتي لم نكن نحلم بمجيئها، حتى أن هناك من بشّرنا بأن عهد الطفرات قد ولَّى. لكن كما قيل أنا أريد وأنت تريد ولكن الله يفعل ما يريد. لقد عادت الطفرة .. ولكن بأي حال عادت ؟!! لقد بدأت الطفرة الماضية وانتهت في غضون عدة سنوات، وأزعم أنها كانت ما بين عامي 1396 و1403ه (1976-1983م) وما يجعلني أقدر التوقيت في هذه الفترة، هو أن ارتفاع أسعار البترول أعقب حرب اكتوبر –أي أواخر- 1973م، وحدوث الوفرة المالية الناتجة عنها وبدء الإنفاق على المشاريع تحتاج إلى فترة لا تقل عن سنتين، ثم في عام 1983م وهو عام تخرجي من الجامعة، بدأت آثار الانكماش بتراجع أسعار البترول، ومن هذه الآثار أن ألغت الدولة الشرط الملزم لخريجي الجامعات بالعمل في الجهات الحكومية لمدة خمس سنوات، وبدأت في التعيين على مراتب أقل من المخصصة لكل تخصص، ثم تصحيح الوضع بعدها بعدة أشهر، وهو ما حصل معي عند تعييني في عام 1403ه على المرتبة السادسة وبعد عدة أشهر تم تصحيح وضعي وترفيعي إلى المرتبة السابعة، وبدأ التراجع غير المعلن عن مكافأة الخمسين ألف لكل خريج يعمل في جهة حكومية، ثم اتسعت دائرة الخلل في التوظيف، والتي بدأ علاجها مع بداية الطفرة الحالية قبل عدة سنوات ولا يزال. أعود إلى مسألة بأي حال عادت الطفرة وبالتركيز على جانب تنفيذ المشاريع !! فقد أنجزت مشاريع جبارة خلال فترة وجيزة قياساً بمعدلات الإنجاز الحالية، وللتذكير فقد أنجز خلال الطفرة الأولى، شبكة من الطرق السريعة وغير السريعة التي ربطت شمال المملكة بجنوبها وشرقها بغربها، بما فيها العقبات عبر جبال عسير، وتم بناء مدينتي ينبع والجبيل الصناعيتين في وقت قياسي، وفي منطقة مكةالمكرمة تم إنجاز شبكة من الطرق والجسور والأنفاق، من أهمها طريق مكةالمدينة، وطريق مكةجدة السريعين، وجسري الميناء، والملك فهد، وجسور طريق الحرمين، وكورنيش جدة الذي يصل طوله حوالى 100كم وأنفاق الطرق الدائرية في مكةالمكرمة التي اخترقت أكثر الجبال صلابة، وجميع هذه المشاريع كانت بأفضل المواصفات، ونُفذت بجودة من أعلى المستويات، وتم أيضاً إنجاز شبكات المياه والصرف الصحي وتصريف السيول، وتوسعة المطار، ثم بناء المطار الجديد الحالي، إلى آخره من المشاريع التي لا يتسع المجال لذكرها، ساهمت في إنجازها شركات مقاولات خارجية، تركية، مصرية، كورية وغيرها. وأما اليوم فقد أصبح تعثر المشاريع سمة ملازمة للغالبية العظمى من المشاريع بما فيها التي تنفذها كبرى الشركات، حتى أن أحدهم ذكر لي أن من بين 280 هناك 270 مشروعا متعثرا تحت إشراف الجهة التي يعمل بها، وتعثر المشاريع يلمسه المواطن بشكل واضح في جميع مشاريع الطرق والجسور والأنفاق والبنى التحتية، حيث تمر الأيام والأسابيع، والمشروع دون حراك يُذكر. وما يثير الاستغراب أن أداء قطاع المقاولات قبل 25 عاماً، كان أفضل بكثير من أدائه الحالي!! ففي الوقت الذي شهدت فيه هذه الصناعة الكثير من التطورات في مجال استخدام التقنية والمعدات، والإدارة، نجد أن الأداء أبطأ وأضعف وأقل جودة !! وهذا لابد أن يدفعنا إلى التساؤل والبحث عن الأسباب، التي تقف وراء هذا التخلف في أداء قطاع المقاولات. وهنا سأطرح عدة تساؤلات - وهي بالمناسبة منهجية علمية متبعة عند البحث عن أسباب المشاكل- وهي: هل جمود الهياكل الإدارية في الجهات الحكومية يُعد سبباً في جمود تطور قطاع المقاولات؟ هل ساهم بقاء بعض الوزراء لفترات طويلة في مناصبهم في إعاقة أوإبطاء التطور االطبيعي للقطاع؟ هل للإفراط في برامج السعودة غير الواقعية وما نتج عنها من قرارات تضييق الاستقدام ساهم في خنق القطاع، وفي إحجام المقاولين الخارجيين عن الدخول إلى أسواقنا؟ هل تأخر سداد مستحقات المقاولين عقب انتهاء الطفرة الأولى كان سبباً في طرد العديد منهم من القطاع وإضعافه؟ هل ساهم ضعف أجهزة الرقابة فيما يشهده القطاع من تراجع في مستويات الجودة وطول فترات التنفيذ؟ هل التحفظ في استحداث الوظائف في الأمانات وفروع الوزارات المعنية بالمشاريع جعلها أضعف قدرة عن مواكبة ومراقبة المشاريع المطلوب منها إنجازها؟ هل ضعف التطوير الإداري والمالي في الأجهزة الحكومية يقف وراء ضعف قطاع المقاولات وتعثر المشاريع ؟ في الواقع أنه يجب أن توكل الإجابة على هذه الأسئلة للمتخصصين من الباحثين والعلماء في مجال الإدارة، هذا المجال الذي لم يحظ حتى الآن بما يستحقه من اهتمام برغم دوره الحاسم في تقدم الأمم.