لم يكن أحد ممن حضروا الندوة -التي نظمها أتيليه جدة للفنون الجميلة مؤخّرًا على هامش معرضه الثالث “مختارات عربية” يتوقع أن يكون استهلالها على النحو الدرامي الذي بدأت به؛ فقبل أن يبدأ المحاضر الفنان عبدالله إدريس ما أعده من دراسة مطولة للمعرض، حتى انطلقت الضحكات من بعض الفنانين الجالسين في الصف الأمامي قبالة المحاضر، ولم يكتفوا بذلك بل طالبوا “إدريس” باختصار ورقته رغم أنه لم يكن قد بدأ بعد.. هذا الموقف أثار “إدريس”، فكانت ردة فعله أن أمر أحد الفنانين الذين طالبوه بالاختصار بالخروج من الصالة، فامتثل. هذه البداية “المتوترة” لم تلقُ بظلالها على سير الندوة التي أدارها مدير الأتيليه هشام قنديل وحظيت بحضور كبير من الفنانين والفنانات، كما شهدت مداخلات ساخنة.. قراءة في اللوحات المحور الرئيسي في الندوة تمثّل الورقة المطولة التي أعدها الفنان والناقد عبدالله إدريس عن المعرض، والتي استهلها بتقديم إضاءات جمالية لأهم الأعمال المشاركة؛ فعن أعمال الفنانة الرائدة مريم عبدالعليم، أشار إدريس إلى أنها تذكرنا بأعمال الواقعية التعبيرية المرتبطة بالواقع الاجتماعي على غرار أعمال الفنانة آجي إفلاطون، فيما يرى أن أعمال الفنان عادل السيوي فيها تصوير للجسد بطريقة تعبيرية وتمطيطة بشكل مبالغ ليتجول الكائن إلى شكل هلامي. مبينًا كذلك أن الفنان السوداني راشد دياب يعتمد في أعماله على ترك فراغ رحب مقفر لا يخلو من صمت الوحشة ولا يقطعه سوى هؤلاء البشر الهامسون. ويواصل إدريس قراءته للأعمال مشيرًا إلى أن لوحات الفنان السعودي طه الصبان بها إشارات لرموز تراثية من البيئة المحلية تملأ لوحته وتزدحم بتلك المفردات، بينما أعمال الفنان العراقي سعدي الكعبي فتبرز ميزتها في الشخوص المحنطة التي تحيط بها دلالات رمزية وحروفيات متجاورة ومتقاربة ومتعامدة توشى بنقوش الزخرفة، وفي أعمال الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج هناك رموز منتقاة تستهدف التعبير عن الالتصاق بالأرض وفضاء الوطن باعتماد التقنية. كذلك يرى إدريس أن اعتماد الفنان التونسي نجا المهداوي على الحروفية باستخدام الحرف العربي أدى إلى استنزاف مخزونه وكفي، وعن أعمال الفنان المصري سيف وانلي أشار إدريس إلى أننا عندما نتذكر هذا الفنان نستدعي بحر الإسكندرية والذي جعله الفنان لحنًا يشبه الخيال، فيما يرى الفنان بيكار أنه خالف في لوحات تصوير الحياة الريفية بشكل جديد، واصفًا الفنان راغب عياد بأنه “الرائد المخلص لبيئته المصرية”، أما أعمال الفنان محسن شعلان فيشير المحاضر إلى أنها تحتوي على دراما حوارية مركبة ضمن بنائية اللوحة، واصفًا أعمال الفنان سامي أبوالعزم بأنها تحمل جماليات الجسد وايماءاته، مرتئيًا في أعمال الفنان شاكر المعداوي، اختزالًا للقرية المصرية، وفي أعمال الفنان محسن أبو العزم واقعية الكاريكتير، مشيرًا إلى العفوية القصدية في أعمال الفنان حسن الشرق. حراك نشط في ضوء هذه الإضاءات الجمالية مضي الفنان عبدالله إدريس في تقديم ورقته المطولة قائلًا: عندما تحتشد كل هذه الأعمال تحت سقف واحد وتحمل مسمى “مختارات عربية” ربما يتهيّب كل من يرغب في رصدها أو الكتابة عنها أو نقدها وذلك لتعدد مستوياتها وشتات أساليبها، فالتعاطي مع مثل هذه الأعمال يتطلب إجراء عملية انتقائية أو التطرق إلى جوانب من الأعمال بشكل غير مباشر. ويضيف عبدالله: إن معرض “مختارات عربية” أجده يتمظهر في ذائقة تستدعي الجمهور ليتعاطى معه ويخلق نوعًا جديدًا من الحوار يسهم في تغذية المحيط البصري بذاكرة لونية بلاغية تستفيد منها الساحة التشكيلية، فهو حراك نشط رغم ما يعتريه من انتقادات كأي معرض يولد في بيئة فنية وثقافية غير مكتملة ومبتورة في عناصرها. فبعض الأعمال بمعرض “مختارات عربية” يكون المدخل إليها عن طريق إحالتها لأسلوب نقدي أو تيار أو مدرسة محددة في النقد؛ أي تحيلنا إلى هذا التيار أو ذاك الأسلوب النقدي لما تحمله من إشارات تومئ بهذا الانتساب والانتماء، فعناصرها ومضامينها تتحرك في فضاءات نقدية محددة تتماهى مع اتجاه نقدي يمكن الإحالة إليه. غياب النقد ويمضي إدريس في حديثه مضيفًا: هذا التنصيص للأعمال الموازية للنقد يحيلنا إلى السؤال: هل ينبغي النظر إلى العمل في ضوء علاقته بالنظرة إلى تيار نقدي محدد؟ مجيبًا على سؤاله بقوله: ربما هذه آلية لتناول العمل عبر أسلوب أو نظرية في النقد، قد تكون متعددة في أكثر من أسلوب؛ إذًا فهو تجريب يثري العمل الفني ويجعله في حالة إنتاج معرفي متواصل مع العين الناقدة. كذلك أسهب إدريس في الحديث عن الغياب النقدي في المشهد التشكيلي، مشيرًا إلى أن الساحة التشكيلية المحلية تشهد حالة من الركود النقدي، مما سمح ببروز كثير من الظواهر والتحولات غير الواعية، مع نوع من العشوائية والتخبط، مبينًا أن الساحة باتت حائرة لا تمتلك بوصلتها، وفاقدة لخطابها الفني الذي يمثّل في نسيجه الخطاب الثقافي الوطني والهوية المفترضة، لكن يبقى العمل الفني الذي لا ينضب وهو يحمل قيمه الضمنية التي يأتي من ورائها فنان مبدع يمتلك الوعي والثقافة. تأثر بالأنظمة الشمولية كذلك طرح إدريس سؤالًا آخر مفاده: هل يغترب الفن بغياب النقد؟ ماضيًا إلى الإجابة عنه بقوله: لم يكن للنقد الفني في الساحة التشكيلية العربية تواجده عندما بدأ بعض الفنانين يعودون من أوروبا بعد تلقيهم دراستهم للفن، وجاء النقد في تلك الفترة بأقلام عدد من الأدباء الذين وجدوا أمامهم إبداعًا جديدًا وجنسًا إبداعيًّا مختلفًا عن الذائقة العربية، ويحتاج إلى إضاءة وشرح وسبر أغواره وكشف خباياه. وبعدها تأثر النقد بفعل الأنظمة الشمولية، التي كانت قد سادت بالنظرية الماركسية أو الواقعية الاشتراكية، واهتم عدد من النقاد بأنه لا بد من إبراز الوظيفة الاجتماعية للفن والأدب، ومنذ الأربعينيات الميلادية إلى أوائل الستينيات برزت اتجاهات ونظريات نقدية كالبنوية ثم التفكيكية والتي استفاد منها الأدب والشعر، بينما لم يستفد المنجز التشكيلي على المستوى العربي بشكل أكثر عمقًا عدا بعض التجارب المحدودة نتذكر منها على المستوى المحلي القراءة البنيوية للدكتور عبدالله الغذامي لأعمال الفنان بكر شيخون التي تبّناها نادي جدة الأدبي منذ سنوات؛ لكن في النقد الجديد ينظر إلى وظيفة الإبداع. وولدت تقاليد فنية جديدة في زمن العولمة، واستطاع النقد مجاراة هذه التقاليد الجديدة والمنجز الفني على المستوى العالمي بما يمتلكه من أدوات، واستناده إلى اتجاهات وتيارات حديثة كانت تنبئ بأعمال ما بعد الحداثة. اختلاف حول الاسم المداخلات التي أعقبت حديث إدريس تركّزت بشكل كبير على مسمى المعرض “مختارات عربية” وتفاوتت الآراء فيه بين مؤيد ومخالف للاسم، ففي مداخلته أشاد الفنان فيصل الخديدي مدير جمعية الثقافة والفنون بالطائف بدور أتيليه جدة الثقافي والتنويري وتصميمه الدائم على إقامة وتنظيم هذه الندوات الثقافية، مؤكدًا أهمية النقد الفني، مبديًا إعجابه بمعرض مختارات عربية، غير أنه انتقد بعض المجاملات في المعرض، دون أن يذكر مثالًا يعضد ما ذهب إليه. الدكتور سامي المرزوقي اعترض على مسمى معرض “مختارات عربية” محتجًا في ذلك بالإشارة إلى أن “الفن ليس له جنسية ولا وطن”، مطالبًا في سياق مداخلته بأهمية إشاعة ثقافة الحوار والاختلاف عند إقامة أي ندوة. اعتراض المرزوقي واجهته الفنانة علا حجازي ب “اعتراض مضاد” قائلة: أنا عربية، صوتي عربي، لوني عربي، حرفي عربي، أنا عربية، ولوحتي عربية، لذا فمعرض “مختارات عربية” عربي، ويجب أن يبقى عربيًّا.. فالاسم الذي اختاره مدير أتيليه جدة هشام قنديل أراه موفقًا. ولم يكن اعتراض علا على المرزوقي فقط بل وجهت لومها للمحاضر نفسه بقولها: لقد تحدثت الندوة النقدية عن أهم الأعمال الفنية الموجودة في المختارات، غير أنها تجاهلت لوحتي المعروضة التي أراها مهمة جدًّا. بقية المداخلات التي شارك فيها كلٌّ من الفنانين محمد العبلان، وفهد خليف، وأحمد حسين، ومؤيد حكيم، ومحمد سعيد الغامدي فقد أكد جميعها أهمية النقد، مطالبين من يتصدى لها أن يكون هادفًا وبنّاءً، وعلى أسس علمية، مشيرين إلى دور النقد البنّاء في تحسّن أعمال عدد من الفنانين الذين استفادوا من تلك الرؤى النقدية الهادفة. ختام الندوة شهد مداخلة للفنان فهد الحجيلان تحدث فيها بإسهاب عن أعمال الفنانين سيف وانلي وأدهم وانلي المشاركين معه في معرض مختارات عربية، مشيرًا إلى تأثره في مرحلة الطفولة بأعمال هذين الفنانين.