فيما عدا حفنة من الأشخاص في طول العالم العربي وعرضه، لا أعتقد أن أحداً يعرف بشكلٍ دقيق قيمة الميزانيات المخصصة لرياضة كرة القدم في هذه المنطقة من العالم. ورغم محاولتي بأساليب مختلفة للوصول إلى رقمٍ قريب من الدقة، كان أقصى ماوصلت إليه تقديرياً أن المبلغ يتجاوز نصف مليار دولار سنوياً على الأقل. لسنا هنا في معرض البحث في الأرقام، لأن دلالاتها تعتمد على الخلفية التي ينظر المرء منها إلى الصورة. فالمبلغ صغيرٌ بمقياس الميزانيات المجتمعة للدول العربية، وبمقياس مشجعي كرة القدم ومسؤوليها الذين لاينفكّون يشتكون من قلّة الميزانية. وهو كبيرٌ ومَهولٌ بمقاييس عامة الناس، وبالعائد الذي يمكن أن يتحقق من استثمار هذا المال في أي مصرفٍ مختلف. دعونا إذاً نقاربُ الموضوع من هذه الزاوية قبل أي شيءٍ آخر. فبالمقاييس الاقتصادية البحتة، يصبح من السذاجة بمكان أن يستمرّ العرب في إنفاق هذا المبلغ، ويكون نصيبهم في أهمّ مناسبةٍ عالمية وصولَ فريقٍ يتيم من فرقهم الوطنية إليه، ثم خروجه من الدور الأول بنقطةٍ وحيدة ناتجة عن تعادل سلبي، أي بدون تسجيل هدفٍ واحد! لاننسى هنا أن طريقة وصوله أصلاً كادت تؤدي إلى حربٍ حقيقية بين الجزائر ومصر، وأن الحرب النفسية والإعلامية بين الشعبين (الشقيقين) لاتزال مشتعلةً ويمكن لمن يبحث أن يرى بعضاً من لَهيبها حتى الآن. للمقارنة والتفكير: دولة سلوفاكيا التي وصلت إلى الدور الثاني نالت استقلالها عام 1993م، وعدد سكانها لايكاد يبلغ 5,5 مليون (إنسان)، وتقل مساحتها عن 50 ألف كيلومتر مربع، ومعدل ناتجها القومي قريب من 100 مليار دولار. هذا في مقابل عالمٍ عربي استقلّت آخر دوله عام 1971م، ويبلغ عدد سكانه أكثر من 350 مليون (شخص) يسكنون فوق أرض مساحتها أكثر من 14 مليون كيلومتر مربع، ومعدل ناتجه القومي قريب من 2 تريليون دولار. لانريد الانخراط هنا في ممارسات جَلد الذات واللطم على الخدود. لكن من الواضح أن المفارقة المذكورة دليلٌ آخر على وجود مشكلةٍ معقّدةٍ، هي أقربُ للفضيحة، تتلبّسُ هذا العالم العربي، ولايمكن فيها إلقاء اللوم على طرفٍ دون آخر. لأن الكلّ ملومٌ بطريقته في نهاية المطاف. إذ تستطيع حسب توجهاتك الفكرية وتبعاً لأولوياتك في الحياة أن توجه اللوم إلى من تشاء، والأغلبُ ألا تكون مخطئاً في تحليلك. فالجهات الرسمية ملومةٌ لدى البعض، لأن ماجرى مؤشرٌ على فشلٍ في التخطيط في هذا المجال بالذات، فضلاً عن الفشل في أولويات التخطيط ابتداءً. واللاعبون ملومون لدى آخرين، لأن الجمهور العربي لم يرَ لديهم، لافي التصفيات ولا في النهائيات، جزءاً من الحافز والعزيمة والإصرار والروح الفدائية التي لاحظها العالم بأسره لدى منتخب كوريا الشمالية على سبيل المثال. والجمهور العربي نفسه ملومٌ لدى شريحةٍ ثالثة، لأنه يضيّع وقته وماله أصلاً في متابعة مناسبةٍ تُعتبر (كماليةً) في واقعٍ مفعمٍ بضياع (الضروريات) وغيابها. هكذا، تأتي لعبة كرة القدم ومناسبة كأس العالم خصوصاً لتكون مرآةً لواقعٍ عربي مليءٍ بمتناقضات عملية وفكرية تؤكد أنه واقعٌ لايعيش إلا (على البركة) كما يقولون.. كيف نتعامل مع هذا الواقع؟ كيف نبحث عن مدخلٍ ما لنحاول تفكيك أي جزءٍ، مهما كان صغيراً، من تلك التناقضات؟ لاينفع مدخل الفتاوى بالتأكيد. ولاينفع مع ملايين الشباب العربي أن يقرؤوا رسالة، وصلتني نسخةٌ منها، فيها مجموعة خطب تُحذّر من التشبّه بالكفار، وتُعددُ المفاسد المصاحبة لكأس العالم، وتُبين أن (الفرح) بسبب الفوز في مباراة لايمثل الفرحة التي تحدث الله عنها في كتابه، ولاحتى التذكير بأن الصحابة كانوا يتسابقون على الإبل مع شرح مافي هذا من فوائد صحية بالتفصيل.. لانُشكّكُ هنا في نيّة من يحاول التعامل مع الظاهرة من هذا المدخل، مع تحفّظّنا على كثيرٍ من مضمونه. لكننا أقربُ لليقين بأن من يستجيب عادةً لمثل هذه الفتاوى عملياً، ويتجاوب مع أصحابها، ليسوا أصلاً من شريحة الملايين التي تتابع المباريات من شباب العرب وكهولهم. بمعنى أن هذه الممارسة غالباً ماتكون نوعاً من (المونولوج) الداخلي، حيث يحاول المتحدثُ إقناع المتلقي بأمرٍ لايحتاج هذا الأخير لمن يقنعه به ابتداءً. بل إننا نخشى أن تصبح مثل هذه الممارسة نوعاً من (رفع العتب) الذي يُشعر البعض بالرضا بناءً على الظنّ بأنهم قاموا بالواجب. لأن استخدام مصطلح (التذكير) يمكن أن يكون سيفاً ذو حدّين. ففي حين يكون استعماله ضرورياً ومطلوباً في بعض الحالات، يُصبح الاقتصار عليه بشكلٍ روتيني مع كل قضية نوعاً من الهروب، وسبيلاً لتجاهل درجات عالية من الجهد الذهني والعملي، والتحفّز والابتكار، لإبداع الحلول وطرح الإجابات والبدائل العملية. نحن بحاجةٍ لقرارٍ شجاع يهزّ الراكد العربي، ولو كان الأمر يتعلق بموضوعٍ جانبي مثل كرة القدم. لأنه قد يصبح مثالاً ناجحاً على مبادراتٍ أخرى في باقي المجالات. من هنا، تأتي الدعوة الجدّية لتجميد ميزانيات اتحادات كرة القدم في جميع البلاد العربية. حسناً، سيكون مثل هذا الإجماع صعباً على أرض الواقع، فلماذا لاتحاول إذاً ولو دولةٌ عربية واحدة القيام فعلاً بهذا الإجراء؟ لماذا لا تعترف جهةٌ ما بأن صرفَ المال على كرة القدم بات عبثاً وأصبحَ أشبه بإلقائه في مصارف المجاري، وأن الدنيا لن تخرب والبلد لن ينهار إذا تمّ إلغاء كرة القدم وكلّ مايمتُّ إليها بصلة من طرف الجهات الرسمية؟ أما القطاع الخاص الذي بات يجني الأرباح الطائلة من عمليات التخصيص والدعاية والإعلان فيمكن له أن يكون مسؤولاً بشكلٍ كلي عن الإنفاق على هذه اللعبة إذا رغب في ذلك. وحتى نكون في منتهى الواقعية، سنقترح أن يتم إنفاق المال على رياضات أخرى وليس في أي مجالٍ آخر. فبالحسابات البحتة، ثمة احتمالٌ قوي بأن يؤدي استثمار تلك المبالغ في الألعاب الفردية مثلاً إلى إنجازاتٍ عالمية كبيرة، ترتفع معها الأعلام. ومع ارتفاعها، يتحققُ الاستثمار السياسي الذي يدّعي بعض الخبثاء أنه سبب الاهتمام بكرة القدم من بداية القصة إلى نهايتها في آخر المطاف. * كاتب عربي