أكد الدكتور محمد سعود العصيمي مدير عام المجموعة الشرعية في بنك البلاد أن الأزمة المالية العالمية أوضحت أن الأسس التي ينادي بها الاقتصاد الاسلامي هي أسس مهمة ورصينة لدرء المخاطر الاقتصادية والتمويلية والائتمانية. وقال العصيمي في حوار مع “المدينة”: نحن طالبنا قبل عامين بمنع البيع على المكشوف ومنع تداول الديون لعدم حدوث الازمات المالية، والمطالبة الان بمنعه في أوربا من قيادات البلدان، مشيرا إلى ان الازمة اضطرت الكثير من الشركات لإعلان إفلاسها لوقف الدائنين عن المطالبة بزيادة ديونهم. المزيد عن المصرفية الاسلامية في تفاصيل الحوار: ** يعتقد البعض أن الازمة المالية العالمية كانت لدى البعض “رب ضارة نافعة”، وأن المخرج منها يمر عبر المصرفية الإسلامية، هل تحقق هذا بعد أكثر من عامين على الأزمة؟ فعلًا أثبتت الأزمة المالية أن الأسس التي ينادي بها الاقتصاد الإسلامي أسس رصينة ومهمة وفاعلة في درء كثير من المخاطر الاقتصادية والمالية والتمويلية والائتمانية على البنوك التجارية والدول والعالم ككل. فمن أهم الأسس التي يدعو لها الاقتصاد الإسلامي منع تداول الديون، ومنع بيوع الغرر ويدخل فيها عقود المجازفات بكل أنواعها من خيارات ومبادلات وغيرها، ومن أسس الاقتصاد الإسلامي منع البيع على المكشوف وقد رأينا منعه في أمريكا قبل سنتين، والمطالبة الآن بمنعه في أوربا من قيادات البلدان. ومن الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي منع زيادة الدين على المدين بعد ثبوته، وقد رأينا كيف عانى كثير من الشركات من تزايد الديون عليها، مما اضطرها لإعلان إفلاسها لوقف الدائنين عن المطالبة بزيادة ديونهم. ومن الأسس المهمة عدم جواز بيع النقود إلا مع القبض الحقيقي أو الحكمي. وقد رأينا كيف أن تجارة العملات المبنية على عقود مجازفة لا تسليم فيها ولا قبض، قد أثرت كثيرًا على البنوك والمؤسسات المالية التي تعمل بها. ومن الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي الشفافية الكاملة في التجارة والشركات والعقود. وقد رأينا في ممارسات البنوك الغربية في هذه الأزمة الحالية حالات كثيرة تم فيها الكذب الصريح على المستثمرين في أدوات مالية وتم فيها تزوير بيانات ومعلومات على مستويات مختلفة. ومن الأسس التي تبين للناس كلهم أن الاقتصاد الإسلامي برع فيها هي أسس التأمين التكافلي المبني على عدم الالتزام للمؤمن عليه إلا بحدود المحفظة التأمينية التكافلية. وقد رأينا كيف تأثرت أكبر شركتي تأمين في أمريكا واليابان، بسبب قيامهما على التأمين التجاري الذي لا يصمد في الأزمات. ** بعد 30 عامًا مضت من تاريخ المصرفية الإسلامية، ألا تعتقدون أنها كافية لتقديم النموذج العملي المناسب بدلًا من المصرفية التقليدية؟ أعتقد أن أمامنا طريقا طويلا قبل أن نقول ذلك. ومختصر رأيي في هذا الموضوع أن البنوك الإسلامية قدمت خدمة لا تضاهى في تغيير بعض المعاملات البنكية التي لا تسوغ شرعًا، مما هو موجود في الدول الإسلامية، ولكن الأنموذج الذي قدمت به تلك الخدمات إنما هو نفس الأنموذج الذي قامت عليه البنوك التجارية التقليدية. وأرى أن على علماء المسلمين في تخصص الاقتصاد والمالية والهندسة المالية أن يقدموا أنموذجا أفضل. ونحن نرى أن أنموذج التأمين التكافلي حين يطبق على الأسس الإسلامية الصرفة أفضل بكثير من التأمين التجاري. ولعل المستقبل ينبئ عن أنموذج لعمل البنوك التجارية أكثر قربا من أسس الاقتصاد الإسلامي. ** منذ تأسيسه انتهج بنك البلاد التعامل حسب الشريعة الاسلامية في تعاملاته المصرفية، ما هي المميزات التي ينفرد بها البنك عن غيره في سوق مصرفية مشبعة بالمنافسة في السعودية؟ نحن أولا في بنك البلاد نرحب ونفرح بالمنافسة بين البنوك الإسلامية في تقديم منتجات بصورة شرعية أفضل. وهي أحد الأسس التي قام عليها البنك بفضل الله. وكما تعلمون فالبنوك الإسلامية أصلا إنما جاءت لتغير الواقع، وكل لبنة خير تصب في ذلك المسار فيجب أن تشجع. ولكن المؤلم أن تبقى بعض البنوك في هذا البلد الطاهر وتصر على تقديم خدمات غير مجازة من الهيئات الشرعية. ونحن في عصر ثبت فيه مصداقية الأسس التي تقوم عليه المصرفية الإسلامية وأنها كذلك مربحة، ومن ثم فلم التردد في التحول الكامل للمصرفية الإسلامية. وأما ما نتميز به فهو أولا عدم المزج بين المنتجات، فلا يقدم في البنك منتج إلا منتج مقرر من الهيئة الشرعية كاملة، وليس فقط من عضو أو عضوين. ثم إن البنك قدم منتجا لم يسبق إليه في السوق السعودية، وهو ينم عن الأساس الذي قام عليه البنك، وهو مشاركة العميل في الربح، وهو حساب البلاد. ** ماذا تحتاج المصرفية الإسلامية كي تكون هي الرائدة في العمل المصرفي على المستوى المحلي والعالمي؟ هذا سؤال مهم، والجواب عليه قد يطول. ولكن باختصار، فالمصرفية الإسلامية ككل تحتاج إلى أن تبحث عن أنموذج وقالب مالي وقانوني أفضل من قالب البنوك التجارية لتقدم به المنتجات الإسلامية للتمويل. ثم هي بحاجة إلى الثبات على الأصول الإسلامية الفقهية، وعدم الحيدة عنها بدواعي الربح السريع. ثم هي بحاجة إلى رجال أكفاء في الإدارات المختلفة للبنك، وفي مجالس الإدارة، وهؤلاء يجب أن يكونوا أكثر اقتناعا من عملاء البنك بصلاحية الأسس التي يقوم عليه الاقتصاد الإسلامي والمالية الإسلامية. إن مجرد الحصول على الشروط أعلاه كاف في نظري لتقديم هيكلة متكاملة للتمويل الإسلامي، فيها الخير ليس فقط لملاكها، بل حتى للمستفيدين منها، وفي الرحمة والرأفة بالمدين، مما يجعلها تعي مسؤولياتها الاجتماعية الهامة التي تناط بها. والدين الإسلامي رحمة ورأفة للعالمين وليس فقط للمؤمنين به. ** تشكو المصرفية الإسلامية من تعدد الفتاوى على مستوى العالم، ما هي الحلول لمثل هذا التعدد في الفتاوى الشرعية من بلد لآخر؟ التعدد المحمود في الاجتهاد لا بأس به، بل أحد محفزات النمو والحركة والبركة. ولكن المشكلة تكمن في القفز على المسلمات الفقهية والمسلمات الشرعية. فلا يمكن في مجال الاقتصاد الإسلامي السماح للربا أن يدخل بأي مسمى في التعاملات المالية، سواء كان ربا فضل أم ربا نسيئة أم ربا ديون. ويجب أن نقف صفا واحدا ضد تسويغه بأي مسمى. وأحمد الله أنني رأيت من كثير من العملاء تحرزا من قليل الربا ما يفوق ما أجده لدى بعض المنتسبين للعلم الشرعي. وهذا دليل صحة للأمة وعافية نسأل الله المزيد منها. وقد يكون استقلال جهات الفتوى في البنوك التجارية أهم مطلب حالي لتقليل الفروق، وإضفاء الثقة على الفتاوى. وكذلك التنسيق بين جهات الفتوى في العالم الإسلامي، وهو حاصل إلى حد كبير في الملتقيات العلمية الرصينة. وللعلم فقط، فكثير من المجالات الحرفية الملازمة للصناعة المالية لها مدارس مختلفة، وليست منمطة، فمثلا هناك عشرات التطبيقات في مجال المحاسبة، والمراجعة، والقانون، ولا غبار على تلك الاختلافات ما دامت تقوم بما يجب أن تقوم به، وهو الضبط للمنتج من الناحية التي تتخصص بها. ** تشكو المصرفية الإسلامية أيضا من قلة في المنتجات المصرفية ومعظم المتوفر الآن هي صيغ مكررة لمنتجات تقليدية ذات شرعية إسلامية. لماذا؟ سبق الحديث عن أنموذج المصرفية التقليدية، وهو قالب يصعب الخروج عليه ويصعب معه تقديم بعض المنتجات الأصيلة في الفقه الإسلامي. فمثلا، حسابات المشاركة بالربح والخسارة ليست أصلا شيئا معروفا في البنوك التقليدية، ومن ثم فإن تقديمها كما أشرت إليه في حساب البلاد جاء بعد عناء شديد، ولا نزال مع المحاسبين القانونيين والجهات الإشرافية في مداولة بخصوصه. وأما ما ذكرت من أن الصيغ الموجودة هي صيغ مكررة، فأعتقد أن ذلك إنجاز للقائمين على المصرفية الإسلامية وليس عيبا. فتقديم المنتجات بصورة شرعية وبصورة تلبي المتطلبات النظامية وغيرها أمر ليس بالسهل. وتعقيدات الهندسة المالية والمخاطر المصاحبة ومتابعة الجهات الإشرافية أمر ليس بالهين، ولا يستطيع شرحه بكلمات يسيرة. ولكن كما ذكرت، أرى أن البنوك الإسلامية قدمت الشيء الكثير، وما زال العمل جاريا على تقديم منتجات وابتكارات، والمهم في نظري أن تكون أكثر لصوقا بالفكر الاقتصادي الإسلامي وبمآلات الأحكام الشرعية بعيدا عن الصورية والربح السريع. ** يقال إن البنوك الإسلامية داخلها معاملات ربوية وواجهتها إسلامية، هل هذا القول صحيح؟ وكيف تغلب بنك البلاد على هذه المعتقدات؟ الحقيقة أن البنوك الإسلامية الرصينة لا يوجد لديها مثل هذه الشيء، وهو مجرد إشاعات تحاك وتحكى. أما البنوك التقليدية ذات النوافذ، سواء المحلية والدولية، فهي فعلا تقدم بعض منتجات تسوق باسم منتجات شرعية، والخلفية التي تتم بها عملية محرمة. وأذكر أن إحدى الشركات قدم لها منتج تحوط من تذبذب سعر الصرف عبر آلية المرابحة من قبل أحد البنوك الدولية العاملة في السعودية وطلب رأيي في الموضوع، فهاتفت الأخ القائم على المنتج، وقلت له، وكيف تتحوطون أنتم كبنك للمخاطر، فقال نشتري عقود تحوط تقليدية من السوق. فقلت له سبحان الله، وهل المشايخ الذين أفتوا بجواز المنتج يعلمون ذلك فسكت. ولذلك، أرى أن الدور المهم هنا يقع على عاتق الهيئات الشرعية، فلا بد لهم من النظر الثاقب إلى التفاصيل الدقيقة للمنتجات. وأنا هنا أدعو الهيئات الشرعية إلى أن يكون في عضويتها خبراء في مجالات الاقتصاد والتمويل والهندسة المالية. فهذه مجالات مهمة تتطور كثيرا، والجهل بها قبل النظر في الحكم الشرعي أمر خطير، وقد يؤدي كما رأيت في بعض المنتجات إلى صرف الناس عموما عن المنتج بعد أن يتبين للناس تفاصيله التي كانت خافية على العلماء. وهناك جهة أخرى عليها مسؤولية كبيرة وهي الجهة الإشرافية، البنك المركزي، فمثل هذه الأمور لا تستاغ أصلا، ويجب وقفها. ** يقال إن أرباح المصرفية الإسلامية أقل من التقليدية وهو السبب في عدم تحول بعض البنوك إلى المصرفية الاسلامية بالكامل؟ الأرباح لا ينظر لها إلا مع المخاطر المصاحبة لها ولا يصح النظر لها مجردة من المخاطر، ومقارنة المصرف الإسلامي التقليدي مثل مقارنة التفاح بالبرتقال. والدارسة المتعمقة للربح المقوم مع المخاطر تبين لك أن كثيرا من الأدوات المالية الإسلامية أكثر ربحا صافيا. فمثلا، يقوم كثير من عمليات البنوك التجارية الإسلامية على بيع السلع، وليس على تقديم النقود. وفي حال رهن تلك السلعة، كما يحدث في العقار، فمخاطرة البنك بلا شك أقل، وعليه، فإن الربح المقوم مع المخاطر أكثر. ولست هنا أدعو لكثرة ربح البنوك أصلا، سواء الإسلامية أو الربوية. ولكن هو الجواب على السؤال. وفي وجهة نظري، فأرى أن البنوك التجارية مطالبة بالرفق والربح المعقول بعيدا عن الجشع، وقد أرانا الله سبحانه وتعالى في الأزمة المالية أن الجشع مهلك ليس فقط للمؤسسات المالية، بل وللدول. والأمثلة في الأزمة أكثر من أن تحصى. وقد سارعت الدول الغربية في الفترة الأخيرة إلى وضع ضرائب على أرباح البنوك التجارية، وعلى وضع سقف على الحوافز المقدمة لكبار التنفيذيين في البنوك. وما ذلك إلا لضررها البالغ على الأمة ككل، حيث تزيد من المخاطر الأخلاقية، وتزيد من تقديم المنتجات غير مدروسة المخاطر. والمطلوب كذلك من الجهات الإشرافية وضع سقف للأرباح على التمويل والإفصاح عنها بشفافية للعملاء.