معرفة البنية السببية الحقيقية المتحكمة في تشكيل الظواهر، والوعي بأولوياتها يختصران على الانسان البحث والتعاطي المستمر مع تجلياتها.. دعونا نجرب هذا المعطى الفلسفي نظريا على مستوى المتحقق فعلا -على الأقل خلال الأيام القليلة الماضية- في واقعنا المحلي: 1-لكم نسمع النداءات الملحة بضرورة قيادة المرأة للسيارة، ولكن ألم يكن من الأجدر أن نعرف أن طرقاتنا وشوارعنا غير قادرة على أن تكون مهيأة لسيارات (الرجال)؟ بتلك الجبال الاسفلتية والحفر الاسمنتية والاختناقات المرورية التي وصلت في بعض مدننا إلى ألف (نقطة) للتلبك الحديدي البشري، وهل أن لتلك النداءات ما يبررها في غمرة الاحصائية المفجعة التي جعلتنا نحتل المركز الأول في عدد الحوادث المرورية في العالم كله.. يعني أن المسألة (ما هي ناقصة)، في ظل افتقادنا -كذلك- للوعي الثقافي الحضاري الذي يجعل من أمر كهذا يمارس بلا تجاوزات من أي نوع! ثم هل المرأة لدينا قد قادت نفسها وبيتها ومؤسستها الحكومية (التي تعمل فيها).. هل قادت حتى (بسكليتة) ولم يتبق لها إلا ان تقود سيارتها ليكتمل أمرها كله! 2-قبل أن نتفاعل مع دهشة بعض علمائنا من فوضى الإفتاء الذي نقرأه ونسمع به بين الحين والآخر فعلينا ان نعرف ان هؤلاء العلماء المندهشين هم ذاتهم الذين فرغ بعضهم عقول أفراد مجتمعنا من سعيها المستحق النبيل نحو المعرفة الخالصة للعلوم والمعارف والادراك الجمالي للفنون، عندما (صحوا) على طريقتهم ذات زمن (مستيقظ.. أصلا) ليدلقوا في شرايين تلك العقول الانسانية النقية خطاباتهم المتطرفة التي لم تتورع في وضع كل المعارف والعلوم والفنون في مواجهة شك وتربص مع الاسلام العظيم، ليتنامى ذلك الخطاب العجيب مع الزمن بتأثيراته الانفعالية وتزامنه (المحظوظ) مع (صحوات) خارجية أخرى، ليعيد بناء الذهنية الفكرية لأفراد مجتمعنا بحسب خطاب واحد مهيمن يجعلنا نفرح كل يوم بفتوى تحرم ممارسة المرأة للرياضة، أو نضيع أوقاتنا بفتوى إرضاع الكبار، في الوقت الذي يفرح فيه الآخرون باختراع جديد أو كشف علمي مثمر كل يوم. هؤلاء العلماء ومريدوهم فيما بعد وبعد هم الذين هيأوا الفضاء لدينا لخطاب الإفتاء المهيمن إرسالا وتلقيا وتفاعلا على السواء.. قبل أن نتفاعل مع هذه الدهشة الإفتائية علينا ان نطرح السؤال الآتي دون غيره “هل ثمة خطاب تعليمي حقيقي أو تربوي أو ثقافي أو علمي أو حضاري (كذلك) في واقعنا على جميع مستوياته؟”وإذا أجبتم -غالبا- بالنفي فلم تدهشون.. ستظلون تسمعون وتقرؤون عن حكم الرضاعة لمن تجاوز العامين بيوم! ثم نعود للاختلاط وسماع الأغاني من جديد! 3-قبل أن نشكو من الأخطاء الطبية في افتتاحية كل صحيفة مطلع كل صباح، فعلينا ان نشكو من عدم وجود ملف طبي كامل ودقيق لكل مواطن (وإذا لم يكن ذلك فللذين يعانون من حالات مرضية حرجة مستمرة).. هل تظل أعضاؤنا متفرقة في مستشفيات حكومية (ناقصة) ومراكز صحية (تجارية) شتى؟ أليس الخطأ التشخيصي واردًا من طبيب مستعجل لا يعي شيئا عن التاريخ الصحي لمريض لا يعرف كيف يشرح حالته بدقة غالبا، إذ تظل المسألة عشوائية مفتوحة على الاحتمالات كافة.. لنصل متأخرين كعادتنا ونبكي ضحايا الأخطاء الطبية! 4-قبل ان نجد في كشف الخلل داخل مؤسساتنا الحكومية ومحاولة مقاربة الحلول المناسبة لكثير من مشكلاتها وأزماتها، فعلينا أن نقيس مدى تجاوب هذه المؤسسات مع ما يكتب من اطروحات جادة من أقلام ذات أبعاد معرفية ووطنية خالصة ومخلصة في صحافتنا المحلية تحاول -دائما- مقاربة عمل تلك المؤسسات، فربما تجدون معي حقيقة انغلاق بعض المؤسسات الحكومية على نفسها وعدم رغبتها في الاستفادة من العقول الأخرى خارج المؤسسة، لتظل مساحة الرؤية محدودة إلى أبعد مدى، فالذي لايخرج من بيته لن يرى بالضرورة الأفق والآخرين.. وسيظل قادة هذه المؤسسات يدورون حول أنفسهم وأزماتهم إلى ما لا نهاية! 5-قبل أن نتعب انفسنا بتعاميم جديدة وقرارات عاجلة وكتابات مغرضة ورسومات مضحكة تتجه دائما إلى الشماعة ذاتها، التي اعتدنا أن نعلق عليها خيباتنا الكبيرة (المعلم) من زوايا (صغيرة) فحسب، كالحضور المختصر للمعلمين هذا الأسبوع، فعلينا أن نساعد هؤلاء المعلمين -باعتبارنا معنيين بأبنائنا كذلك- على سحبهم من بيوتهم الآمنة إلى المدارس، فمادة عمل المعلم الرئيس هو الطالب، وإذا غاب ذلك الطالب فما الجدوى من حضور المعلم من بداية اليوم الدراسي وحتى نهايته؟ نحن كلنا بمؤسساتنا الحاضنة لهؤلاء الفئة السامية، وبخطابات البيت والشارع والمجتمع قد ساهمنا بشكل أو بآخر في إهدار قيمة المعلم ثم نطالبه بمخرجات ذات قيم من كل شكل ولون! 6-قبل أن نشتكي من غياب الوعي بكل القيم المعرفية والأخلاقية والجمالية لأكثر أطياف مجتمعنا، فعلينا أن نبحث في علاقة هذا المجتمع بالقراءة.. القراءة.. بالكتاب والمعلومة، ثم نبحث في قيمة الثقافة التي ينتجها الآخرون لنا من الجنسيات الكثيرة الوافدة (بالملايين) والتي أثبتت الاحصائيات بأمية 80% منهم، والذين لا ينتجون لنا سوى الجريمة والانحلال والتخلف الحضاري (كأننا ناقصين هذه الأخيرة!). 7-قبل أن نتألم ونتباكى على غياب منتخبنا الرياضي في هذا المونديال الأخير لكأس العالم، فعلينا أن نرى الآلية التي تدار بها حصص (التربية الرياضية) في مدارسنا! علينا أن نعرف كيف يقضي لاعبو أنديتنا يومهم خارج أسوار ناديهم؟ وما طبيعة النظام الصحي الذي يسير عليه المجتمع كله وليس لاعبيه فحسب.. علينا ان نقيس تاريخنا الرياضي بتاريخ منتخبات حديثة تماما (اليابان وكوريا في قارتنا وهناك بعيدا المنتخب الأمريكي) رغم ان كرة القدم في هذه البلدان لا تشكل محوراً مهماً في حياة الناس -كما هو لدينا- بل أن كرة القدم لديهم ليست سوى لعبة رياضية من منظومة رياضية أخرى أكثر أهمية، علينا أن نراقب أعين جماهير ولاعبي منتخبات المونديال لنعرف اننا نفتقر حقيقة لكثير من الشواهد، لعل أقلها رصانة الخطط وفاعلية البرامج وإخلاص العمل والوعي التاريخي الحضاري والعاطفة الوطنية الساكنة -بلا تعليم وتلقين- في الأعماق الانسانية القصية.