الثَّقافة بمَعناها الشَّامل مُعطيات فِكريّة تَدخل في السّلوك، وتُنتج الفعل، وتُحرِّض على الحياة، وتُسيِّر تَصرُّفات الأفراد، والقول بغير ذلك نوعٌ مِن التَّعالي على الوَاقع..! خُذ مَثلاً، هذه المَقولات التي يَحفظها القَوم، ولم تُغادر عقولهم، بل استوطنت أذهانهم، وأصبحت أفكَاراً تَستعمر أدمغتهم، ولو حَاولنا شَرح غَوامض «عِلْم الظَّواهر» -كما هو تَعبير النَّاقد «جَاك دريدا»- لرأينا أنَّ الإصبع يَتّجه إلى نتوء الجَرح، وانتفاخ مَكان الإصابة..! والحديث الذي تَتقصَّده هذه الكَلمات يَترصَّد الفِكر الشَّعبي، وعلاقته بالعُنف لفظاً ومُمارسة، والإرهاب تَفكيراً وفعلاً، ولن يُعدم المُتابع الجيّد رَصداً وتَأكيداً لهَكذا وَضع وحَالة..! مِن الثَّقافة الشَّعبيّة تَلمس أنَّ حَركات العُنف والاعتداء، وتَقديم الشَّر وإضمَار العدوان، هو السَّابق على تَوخِّي الحَذَر، وصيانة التَّصرُّفات، وإقامة العَدل، ومِن أبسط الأمثال على ذلك مَقولة: (اليد التي لا تَستطيع أن تدوسها بوسها)، إذاً الأصل أن تَدوس اليد، وإذا تَورَّعت عَن «الدَّعس»، فليس مَردُّ ذلك التَّعالي وصيانة الكَرامة، بل العَجز والقصور عن مُمارسة الفعل العدواني، ولو أنَّ العَوام فيهم رَجُلٌ رَشيد لقَال: (الوردة التي لا تستطيع أن تقطفها شمّها)..! مَقولة أخرى: (جِلْد ليس جِلدك جُرُّه على الشّوك).. إنَّ هذه المقولة لا تَعني أكثر مِن تَدمير كُلّ شيء ليس لنا، وكأنَّ القوم لم يَسمعوا بحديث شريف يَقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه)! مَقولة ثالثة مَفادها: (لماذا تُجهّز العصابة قبل «العَلقة» -على لهجة النَّجديين- أو «الفَقشة» -على لهجة الحجازيين-)، والموضوع لا يَعدو أكثر مِن إساءة الظَّن، حيثُ يَتوقَّع أحدهم ضَرباً مِن فُلان، فيَنصحه الأصدقاء بأن يَترك أمر تَجهيز «العصابة» حتَّى تَتم مُؤامرة «العَلقة»..! مَقولة رَابعة تَقول: (فلان لا يرمي ولا يجمع حصى).. هُنا أنت مُخيّر بين العدوان والمُساعدة عليه، إذ يَجب عليك أن تَرمي بالحجارة ك«أطفال فلسطين»، أو تَجمع الجَمرات وتلملمها مِن أرض المعركة.. ماذا لو قلنا: (فلان لا يُزكِّي ولا يجمع الزَّكاة)..؟! مَقولة خَامسة تَقول: (أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب).. هُنا أنت مُجبر على الدّخول في تَحالفات «عرقيّة»، لا تُقيم للحقِّ أي اعتبار، إنَّما تُصبح أسير النَّظرة الجاهليّة «المُنتنة» التي تُحكِّم قِيَم القبيلة، لا عَدالة الفضيلة..! لقد درسنا النَّحو سَنوات وسنوات، ولم نَجد عند ابن مالك في ألفيّته، ولا عند سيبويه في «كِتَابه»، ولا عند «شلّة النُّحاة» إلَّا أمثلة مُخجلة، لا تَخرج عن «ضَرَب زيدٌ عَمراً، واشترى زيدٌ عَبداً، وقَتَل زيدٌ رَجُلاً»..! ومِن السَّخف أنَّ النُّحاة يُبرِّرون الضَّرب لعمرو، لأنَّ الأخير سَرَق «الواو» مِن دَاود، فقَاموا بقَطع يد اسمه بالضَّرب مُنذ ألف سنة..! إنَّ ثَقافة القَتل والعُنف حَاضرة في الذِّهن.. خُذ مَثلاً: (العيار الذي لا يصيب يدْوش «يُزعج»)..! ولو شئت أن تَتأكَّد فاقرأ التَّاريخ العربي، لن تَجده إلَّا تَمجيداً لحالة القَتل، ومَدحاً للغزو، وإعلاءً لمَفهوم الموت، وثَناءً على التَّخلُّص مِن الحياة، أو على الأقل الجلوس والتَّفكير في انتظار الموت، و«سَحق الأعداء»! هذه صفحة مِن ثَقافة القَوم، قد يَستعصي على القَلَم مُلاحقة المَزيد، لأنَّ الكُتُب والأفواه والرّؤوس مَحشوّة بما سهل تَنفيذه مِن العَذاب، وكثر تَطبيقه مِن القَتل والتَّشريد والسَّحق، ومَن يَقرأ كِتَاب «موسوعة العَذاب» للباحث الجاد «عبود الشالجي» بأجزائه السَّبعة، يُفجع لكميّة الوَحشيّة والظُّلم، والطُّغيان والعدوان لَفظاً وفِعلاً، حيثُ بَدأ بالشّتيمة، وانتهى بالقَتل حَبساً ودَفناً، وبالإبَادة حَرقاً وإغرَاقاً بالمَاء والزّيت.. وَقاكم الله وإيّانا شَرّ الظَّالمين والمُتسلّطين..!.