من جديد هذا العصر وجميله في آن: ما نتج عن دخول الشبكة العنكبوتية إلى حياتنا من شيوع كمي منقطع النظير للقراءة والكتابة، فالكل اليوم يقرأ، كما أن الكل اليوم يكتب، وفي هذا الخضم من القراءة والكتابة نجد القليل من التوعية والتوجيه حول أخلاقيات القراءة والكتابة، وهي أخلاقيات أصبح الحديث عنها ضرورة ملحة، فنحن لعدة عقود كنا نشتكي من الصحافيين، الذين لا يحمل أكثرهم ما يؤهله لمخاطبة الجمهور وتوجيه الرأي العام، وكان المفكرون يطالبون بإعادة تأهيل كُتاب الصحافة والتدقيق في اختيارهم للحصول على نوعية مناسبة من حيث الفكر والقلم لحمل هموم الرأي العام وتوجيهه، لكن ذلك لم يحصل، وظلت الصحافة في غالبها مهنة تعتمد على العلاقات والإقدام أكثر من اعتمادها على الموهبة والفكر الناضج، وجاء الإنترنت، وهو كما أثمر عن فتح الباب بشكل متميز للموهوبين الذين لم يأخذوا فرصتهم في صحافة الورق، جعل الباب مشرعًا أيضا أمام من ليسوا كذلك ليكتبوا كل ما يخطر على البال. وكان قراء الصحافة أيضا محدودين، حيث لم تكن الصحافة توفر كل ما يريده الناس من المواد الصالحة والطالحة ولم تكن توفر فرصة تفاعل القارئ مع ما يقرؤه، أما الإنترنت فيوفر كل شيء تريد أن تقرأ عنه، كما أنه يعطي فرصة متاحة بشكل لا تمييز فيه، لأن يتفاعل القارئ مع ما يكتب له، وذلك إما بالتعليق السلبي والإيجابي أو حتى تسجيل الدخول للموقع أو المقال، الأمر الذي جعل القراءة أكثر جذبًا وإغراءً. العصر حقا تغير بسرعة والمشكلة تفاقمت بسرعة ولا بد من تداركها، فبعدما كانت الجهات الصحافية مطالبة بتأهيل القلة من الصحافيين للكتابة، أصبحنا في حاجة ماسة لتأهيل الأمة كافة لهذا العمل، وبعدما كان المفكرون يتحدثون لفئة محدودة عن اختيار ما يقرؤونه؛ أصبح الحديث لازم التوجه لكل من يملك جهاز حاسوب أو هاتف محمول متواصلًا مع الشبكة العنكبوتية. قلت في صدر المقال: إن هذا من جديد العصر وجميله، وقلت في أثناء الكلام إنها مشكلة، ولا تناقض بين العبارتين، فأن تكتب الأمة وتقرأ: أمر جميل، وأن تعيش فوضى الكتابة والقراءة مشكلة. وقد قرأت لعدد من كتاب الصحافة ورؤساء التحرير مناداة بحل هذه المشكلة عن طريق إيجاد حلول لمشكلات أخر، ويتلخص حلهم في تحجيم الصحافة الإلكترونية بشكل لا يتماشى مع الواقع ولا ينتج عنه المطلوب ولا يمكن أن يكون محلا للتطبيق دون أن تكون عواقبه أسوأ حالا من الوضع الراهن. قليلون جدا من رأيتهم يتحدثون عن حلول واقعية ممكنة التطبيق تساهم في رقي المجتمع ثقافيا وسلوكيا، كما تساهم في توحده ورأب ما يمكن أن تحدثه فيه الكتابة والقراءة غير المنضبطة من تصدعات. لعلي هنا أفتح الباب أمام التفكير في مشروع ضخم تساهم فيه الدولة بجميع مكوناتها العلمية والإدارية. كما يساهم فيه القطاع الخاص بكل مقدراته المالية والتقنية، ويتلخص في جعل تعلم أخلاقيات الكتابة والقراءة وآدابهما حقا متاحا لكل مواطن وذلك عبر محاور عدة منها: أولاها: العناية بمادتي المطالعة والإنشاء أو التعبير في التعليم العام، وهاتان المادتان في تقديري هما أهم ما يدرسه الطالب في مراحل التعليم الثلاث بعد كتاب الله تعالى وسنة نبيه، إلا أنهما عانتا من الإهمال التام والتهميش منقطع النظير في تعليمنا طيلة ثمانين عاما، وتجب المبادرة الآن إلى تصحيح الأمر وإعطاء هاتين المادتين ما تستحقانه من مكانة، لأن جميع تلاميذ اليوم لا أقول إنهم كتاب الغد، بل هم أيضا كتاب اليوم وإهمال توجيههم إلى أخلاقيات وآداب القراءة والكتابة سينتج عنه لا ريب أزمة ثقافية إن لم نبادر الآن إلى تداركها فسوف تحل بساحتنا والله أعلم بما ستنفرج عنه من أزمات ليست محصورة في الثقافة ولا في الدين ولا في الأمن والسياسة. ثانيها: توفير المراكز المتخصصة في تدريب المواطنين على هذه الفنون في كل مكان وعبر جميع وسائل الاتصال، ولا بد أن يسبق ذلك مشروع كبير لتأهيل طاقات من المدربين كي تكون تلك المراكز المتخصصة مشغولة بالمؤهلين من الذين يقدمون المعلومة حتى لا نجد أنفسنا في حاجة لأن نشغل تلك المراكز بمن هب ودب. المحور الثالث: يمكن أن أسميه تخصيص المجتمع. فقد ظل علم الاجتماع يقسم الناس من حيث القدرات الفكرية إلى خاصة، وهم الأقلية من النخب التي تتمتع بقدرات فكرية تتيح لها استيعاب كل ما يطرح أمامها من مشكلات أو أكثر ما يطرح ومناقشته والمساهمة في حله، وإلى عامة وهم الأكثر ويعنون بهم الطبقات المنساقة فكريا للطبقة السالفة الذكر، وتخصيص المجتمع هو المساهمة في رفع مستوى المتلقين جميعا ليكون عامة الناس هم خاصة الناس أيضا أو على الأقل تتقلص الفوارق قدر الإمكان بين الخاصة والعامة، بحيث يصبح التفكير والتعامل مع المشكلات بعقل واتزان مسؤولية يتبارى الجميع في تحملها كما يتبارون اليوم في تحميلها للغير. قد يقال إن هذا الأمر خيال صرف، ولا أخفي عن القارئ: أنني أنظر إليه الآن على أنه كذلك أي: خيال صرف، ولكن تسارع متغيرات العصر جعلت عند البعض وأنا منهم احتفاء كبيرا بالخيال، وهي حفاوة آمل أن تصل إلى صناع القرار في بلادنا لأن الواقع أصبح مما لا يوثق باستمراره.