تمثل مدينة تبوك بعمقها التاريخي ، وحضورها الوجداني أحد أبواب شبه الجزيرة العربية الشمالية إلى العالم الخارجي ، كما تمثل الباب الرئيس الذي من خلاله تمكن إنسان الساحل الغربي من ملامسة مخرجات الثقافة الكامنة ضمن بلدات وأحياء وأروقة بلاد المشرق العربي بحسب التعبير الثقافي ، فكان قدرها أن يحظى أبناؤها بوجه عام ، بخاصية اختزال ما تراءى لهم من قيم ثقافية ، وكان قدرهم أيضا أن يكونوا روادا لبعث حالة البحث المعرفي لتلك القيم الثقافية العربية على نطاق محيط مجتمعنا المدني في إطار مملكتنا العربية السعودية بوجه خاص . ذلك أن مسائل مناقشة هموم وتحديات الخطاب الثقافي العربي ، والانفتاح عليها بالتحليل والقراءة ، كان حكرا على عوالم مثقفي المشرق العربي فقط ، ولم يهتم مثقفو الأطراف بملامسة ذلك البعد الثقافي إلا من جانب فردي ، أو ضمن إطار مؤسساتنا الأكاديمية ، فجاء النادي الأدبي بمدينة تبوك ، وبرعاية قوية من أمير الثقافة بالمنطقة ، ابن مدرسة التاريخ وربيبها ، سمو الأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز ، ليدشن فجرا جديدا لخطابنا القومي العربي ، باختياره الموضوع عنوانا لملتقاه الثقافي الثاني ، وكأنه قد أراد أن يسند خطابنا القومي ، بدماء ثقافية أصيلة في أرومتها ، زكية في تكوينها المعرفي ، لتشارك في تشخيص أزمة واقعنا الثقافي ، وقراءة طبيعة التحديات التي نواجهها ، فجاءت محاور الملتقى الرئيسة دقيقة في هذا الجانب ، واضعة يدها على أطراف جراحنا المسكونة في دواخلنا ، حيث تركز المحور الأول في مناقشة هيمنة الخطاب الثقافي الغربي وإشكالاته ، وناقش المشاركون في المحور الثاني مسائل مفهوم الخطاب الثقافي ومكوناته ، وكان الاهتمام في المحور الثالث منصبا على توضيح مظاهر العنف في خطابنا الفكري وتداعياته ، على أن المحورين الرابع والخامس قد لامسا بأبحاثهما مسألة واقع التعليم ومخرجاته ، وعلاقة الإعلام بالخطاب الثقافي . لقد شكل الملتقى نقطة تحول رئيسة على مستوى ساحتنا الثقافية المحلية ، لكونه قد ربط المثقف النخبوي السعودي بنظيره من مثقفي المشرق العربي ، وبالتالي فقد سطر الملتقى الجملة الأولى في كراس مشروعية تبني مناقشة مثل هذه المواضيع ، وفرض حقنا في ممارسة نقد الخطاب العربي الثقافي ، لننتقل من حالة المشاهدة والتلقي ، إلى حالة المشاركة والتفاعل الإيجابي مع حيثيات وأبعاد خطابنا الثقافي القومي ، وهي نقطة جوهرية تحسب لتبوك (أميرا ومثقفا) . بقي أن آمل أن يفرد الملتقى في عامه التالي لقاء خاصا لمناقشة تحديات خطابنا الثقافي المحلي على مختلف أشكاله الدينية والاجتماعية والإعلامية ، لاسيما وأن مشهدنا الثقافي السعودي ، وبحكم حالة التنوع المذهبي والفكري الذي نعيشه بشكل عام ، قد تبلور فيه العديد من الخطابات المختلفة في التفاصيل ، المتفقة في المنطلق على أقل تقدير ، فمن خطاب حداثي إلى خطاب محافظ ، ومن توجه تنويري إلى توجه تقليدي ، ومن رؤى وفهم عرفاني عقلي إلى رؤى وفهم أصولي نقلي ، وهكذا أصبحنا نشكل بعدا جوهريا ضمن ثنايا مشهدنا الثقافي العربي ، وأصبح لدينا نمط تحدياتنا الثقافية الخاصة ، التي نحن في أمس الحاجة إلى الانكشاف عليها ، وتقديم ما يتراءى لنا من قراءات نقدية حولها .