ضرب العدادون أنموذجًا صارخًا للصبر وتحمل المشاق والتغلب على وعورة التضاريس في بطون الأودية وأعالي الجبال، بل نحسبهم استطاعوا بمعاول الطموح أن يحطموا الصعاب بكل صورها وأشكالها.. رجال يحملون الحقائب وبين أيديهم سجلات وأوراق وعلى صدورهم بطاقات يجوبون الأودية والقفار عبر مسالك وعرة وطرق خطرة على ظهور سيارات متهالكة تغوص إطاراتها في الرمال حينا ويتوقف محركها عن العمل أحيانا، وعندما تقترب منهم تجد لهم أشمغة وعقل على المراتب ملقاة ووجوه مرسوم عليها آثار المعاناة بمداد من عرق ورمل، ورغم ذلك يطلون عليك بابتسامة عريضة لا تفارق ثغورهم. وبعيدًا عن الجغرافيا “المعقدة” والتضاريس الوعرة يواجه العدادون صعابًا أخرى تتمثل فى عدم رغبة الكثيرين فى إعطاء المعلومة الصحيحة أو هروب المخالفين من أمامهم، الأمر الذى يعنون مهمتهم ب “الشاقة”.. “المدينة” رافقت العدادين فى رحلتهم الصعبة. جهد جهيد أحد العدادين وقف ليستوفي بيانات مقيم فسأله 28 سؤالا، ولكنه لم يتمكن من الحصول على اجابة إلا بعد جهد جهيد؛ ففي كل محاولة يسأل العداد بلغة هادئة ويبحث عن المعلومة برفق سعيا منه لتحقيق الشمولية والمنطقية. كل هذا وهو واقف تحت وهج الشمس الحارقة وبين تيارات الرياح وذرات الغبار ولسان حاله يقول عزاؤنا الوحيد أننا نقوم بعمل وطني ونشعر بأننا شركاء في بناء خطة التنمية.. الغريب أننا حاولنا الاقتراب من العداد والتحدث معه ولكنه اعتذر وخرج منا بلباقة؛ فليس لديه من الوقت ما يكفي لانجاز المهام الموكلة به، وعندما تدنو الشمس من الغروب يلملم العداد سجله ويحفظ استماراته ليذهب على أمل العودة إلى صباح جديد ورحلة مختلفة. رحلة شاقة فيصل محمد يقول: يواجه العداد في الميدان الكثير من الصعوبات والمعوقات التي تستنزف قدرا كبيرا من وقته وجهده من اجل التغلب عليها ابتداء من وعورة الطرق ومفترقها التي تحتم عليك الاستعانة بنوع خاص من السيارات الى ساعات الوقوف والانتظار الطويلة على البوابات وامام المباني، لا سيما أن الكثير من العمالة غير النظامية تهرب من أمامنا ولا نتمكن من كسب ثقتهم إلا بعد فترة تهيئة نفسية واحيانا لا يعطون المعلومة كما هي مما يحتم عليك تنويع الوسائل والاسئلة حتى تصل لما تريد. وآخرين لديهم اسرهم او بعض أقاربهم يرفضون تسجيلهم؛ ظنا منهم أن ذلك يقود للقبض عليهم ولا يقتنعون بسهولة. أضف إلى ذلك أن المزارع والاستراحات مليئة بكلاب الحراسة التي تشكل خطورة كبيرة على حياتنا. زد على ذلك بعد البوابات والمداخل عن المساكن فلا مجيب لمناداتك. ومما يزيد من صعوبة العمل تواجد العمالة على رأس العمل وصعوبة البقاء بعد الغروب في مناطق موحشة مقفرة، مما يدفع العداد للخروج أثناء فترة الظهيرة ويستمر في الميدان حتى الغروب ولا ينتهي العمل بذلك بل انت مطالب بالعودة للمركز من أجل المراجعات وإكمال البيانات فلا تعود الى منزلك إلا بعد العاشرة وانت خرجت منه قبل الثانية. إنه وقت راحتنا وفترة قيلولتنا نهبها للتعداد وفي المقابل ما خصص من أجر يومي للعداد لا يتناسب إطلاقا مع ما يقدم وما هو مطلوب منه. أعذار واهية فهد عبدالله يروى معاناته مع بعض رؤساء الأسر ومماطلتهم وتسويفهم وتملصهم بأعذار واهية وعدم تقدير العداد وتثمين وقته واستشعار دوره والهدف الذي جاء من أجله فلا يتجاوبون بسهولة. تجد آخرين يتنقلون بين المنازل يرحب بهم البعض فيما يظلون فترات طويلة أمام أبواب البعض الاخر وهم يقرعون الاجراس ويبقون ينتظرون الرد وخروج رئيس الاسرة، ولكن ربما الجرس لا يقرع وصاحب الدار يغط في نوم عميق والعداد يقف يمسح عرقه حينا ويستنجد بالجرس أحيانا لعله يجد ضالته وعندما يجد صاحب الدار تتوالى عليه الاسئلة وتكثر الاستفسارات وهو محمل بالهموم يريد أن يلاحق صاحب منزل رقم 239 و240 و241 فقد مر بهم عدة مرات وفي كل مرة يعتذرون له لضيق وقتهم فيتقبل عذرهم مكرها، فليس لديه وسيلة لاداء امانته وانجاز مهمته إلا الصبر والانتظار والتردد والتودد والتوسل. الكل منهم يشتكي عدم الانصاف فهم يحرقون أثمن أوقاتهم وزمن اجازتهم فاجازة منتصف العام والاجازة الاسبوعية وفترة القيلولة وظفت في الجولات الميدانية واستيفاء استمارات الاسر ومراجعتها ناهيك عن بعض رؤساء الاسر الذين يقابلون العداد بتذمر وعبوس ويمتد احيانا إلى أمور أشد من ذلك.