ها هُنا العِلْم يُثبت أنَّني مُحقٌ في إعجابي ب«بَني حيوان»، فقَد ثَبَتَ مُؤخَّراً – بل ومُقدَّماً – أنَّ الحَاسَّة السَّادسة عند الحيوان؛ أقوى بكثير مِنها عند بَني آدم، ومَع هذا، مَا زال الإنسان يُجادل.. «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً»..! حَسناً.. مَاذا يَقول المُختصُّون..؟! يَقول عَالِم النَّفس الكبير «ستيل»، كما يَنقل عنه عَالمنا د. «علي الوردي»: (إنَّ الحَاسَّة السَّادسة في الحيوانات أقوى جدًّا ممَّا هي عليه في الإنسَان)، والحيوانات –حَسب رأي «ستيل»– تَعتمد على هذه الحَاسَّة اعتماداً كبيراً، إذ هي مِن أهم العَوامل في حياتها الاعتياديّة.. ويَستطيع أن يُدرك ذَلك كُلّ شَخص قَد عَنى بمُلاحظة الحيوانات..! وقد أسهب العَالِم «ستيل» في ذِكر الأمثلة، للتَّأكيد على أهميّة هذه الحَاسَّة في الحيوان، وخَصّ بالذِّكر ما يُسمَّى بحَاسّة «الاتجاه»، أو حَاسّة «غَريزة التَّأويب» عند الحَشرات، والطّيور والزَّواحف..! أمَّا الإنسان -في رأي شيخنا «ستيل»- فقَد نمَّى عَقله المُفكِّر، وأخذ يَعتمد عليه في حياته، فتَقلَّصت بذلك وَظيفة الحَاسَّة السَّادسة، وأصبَحت ضَعيفة عنده..! حَسناً.. لنَأخذ مَثلاً على أصدقائي «بني حيوان»، وحَاسَّتهم السَّادسة.. يَقول عَالِمنا «ستيل»: (ليس مِنَّا مَن لم يَقرأ شيئاً عمَّا يَقع لفَارس وجَواده، وقَد تَوغَّل هذا الفَارس في مَنطقة خَالية مُتَّسعة الظَّمأ.. فمَا كَان مِن الظَّمأ إلَّا أن أدركهما، وبَلغ مِنهما كُلّ مَبلغ، دون وجود أي دَليل عَلى وجود قَطرة مَاء يَرتشفون مِنها..! في هذه الحَالة الصَّعبة، تَرك الفَارس الحَبل لفرسه، ليَأخذ زِمَام المُبادرة والهداية، والإرشاد والتَّوجيه، أخذَ الفَرس يَسير كيف يَشاء، فإذا كان في الإقليم قَطرة مِن مَاء يُمكن الوصول إليها -قَطعاً- سيتّجه الفَرس صَوبها، ولو كَان على بُعد 12 ميلاً.. وهذا مَا حَدَث.. والسَّبب أنَّ الصّورة الذّهنيّة لهذا المَاء -الذي يَستطيع الوصول إليه- قد أوجَدت في مخ الحصان موجة طولها كطول الموجة المنبعثة مِن المَاء، فانساق الفَرَس نَحو المَصدر، الذي تَنبعث مِنه هذه الأموَاج)..! هذا هو عَالَم «بَني حيوان» الذي عَنه تَسألون، فِطرةٌ صَافية، ودِقَّةٌ ضَافية، وبَرَاعةٌ عَاتية..! وفي هذا المَقام، يَجب أن أُشير بكَثير مِن الشُّكر؛ إلى صَديقي «المُتواري» -الشَّاعر الرَّوعة- «حسين عجيان العروي»، الذي أصدر أوّل دَواوينه حَاملاً اسم: «لِمَ، السَّفرْ نبوءة الخيول بَشائِر المَطرْ قَصَائدي انتظَارُ مَا لا يُنتَظرْ»! إنَّ شَاعرنا «حسين» -بهَذا العنوان- يُعيد شيئاً مِن حقوق «بني حيوان» المَسلوبة.. إنَّه يُثبت للخيول أمراً نَسيه النَّاس، ألا وهو: قُدرة الخيول على «استشراف مَساقط المَاء»؛ مِن عَلى مَسافة بَعيدة.. لذا للشَّاعر مِنَّا –نَحنُ بني حيوان– كُلّ الشُّكر والتَّقدير والاحترام..! حَسناً.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القول: إنَّ خلقاً كثيراً -مِن الأصدقاء والقُرَّاء- يَسألونني عن ذَكائي، كيف تَكوَّن..؟!، وما مَصدره..؟! وجَاء الوَقت الذي أبوح فيه بالسِّر العظيم.. إنَّ كُلَّ الذَّكاءِ الذي أتمتَّع به، جاء بسبب احتكاكي بالحيوانات، ومُصاحبتها في السَّفر والحَضَر، وطَلَب العِلْم بين يديها، وحَسبُكَ بها كَائنات فطريّة سَليمة، تَتصرَّف بذوقها الحيواني وبَساطتها التِّلقائيّة، وهذا مَا جَاءني مِن جَرَّاء سُكنى ومجاورة الحيوان، ولقد صَدَق مَن قال: (جَاور السَّعيد تَسعد)، وقدوتي في ذلك «ابن آدم» الذي تَعلَّم مِن «الغُراب» واقتدى به في طَريقة دَفن المَوتى..!.