ما أحوجنا إلى الأخوة الصادقة بحقيقتها، فالمؤمنون أخوة، متحابون (إنما المؤمنون أخوة)، والفاروق -رضي الله عنه- قال (ما حاججت أحدًَا إلاّ وتمنيت أن يكون الحق على لسانه)، وكان الشافعي حينما يحدث عن أحمد، وهو من تلاميذه، فلا يسميه تكريمًا له، وإنما يقول (حدثنا الثقة من أصحابنا أو أخبرنا الثقة من أصحابنا)، وكان أنس بن مالك -رضي الله عنه- إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه، ومن سلامة صدر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه شتمه رجل فرد عليه قائلاً (أتشتمني وفيّ ثلاث خصال؛ إني لا آتي على آية إلاّ تمنيت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، ولا سمعت بقاضٍ عادل إلاّ فرحت ودعوت له وليس لي عنده قضية، ولا سمعت بالغيث في بلد إلاّ حمدت الله وفرحت، وليس لي ناقة ولا شاة)، وقال أبو سليمان الدارني (إني لأضع اللقمة في فم أخٍ من إخواني فأجد طعمها في حلقي)، وقال محمد بن مناذر (كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعله، فقلت ما تصنع؟ قال أواسيك في الحفاء) أي لا يريد أن يمشي منتعلاً، وأخوه بلا نعل، وقال مجاهد (صحبت ابن عمر أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني)، ويذكر الإمام أحمد عن ابن راهويه وكان يخالفه في أمور فيقول (لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا)، والشواهد من تراثنا كثيرة. فيا ترى أين هذه الأخوة التي نتغنى بها، ونحن نلوك أعراض إخوتنا بغيبة ونميمة وبهتان وإفك مبين، فليست الأخوة الصادقة حينما يكون أخوك مؤيدًا لك وموافقًا لرأيك، أو أنك منتفع منه، وإنما تكمن الحقيقة عند الاختلاف والخلاف، وحفظ حقوق الغير حتى ولو كانوا من غير الملة، فكيف إذا كانوا من أخوة الدين، وحتى لو فرضنا أن هناك من يخالفنا في رأي أو مسألة أو اجتهاد، فلا يبرر لنا هذا أن نجحد حقه فضلاً عن الاعتداء عليه، ولا نود أن يكون حالنا مع من يخالفنا كقول الشاعر: الناس إخوان من دامت له نِعم والويل للمرء إن زلت به القدم فهذا في حال الزلة، فكيف في حال مواضع الاختلاف السائغ، ولذا فإنه قد يصدق في كثير من حالاتنا قول الأول: فما أكثر الأصحاب حين نعدهم ولكنهم في النائبات قليل وقد رغبنا الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- بأن نحرص على مصاحبة ثلاثة، الأول عالم متخلق بأخلاق النبوة، والثاني حكيم بيضت فوديه ليالي التجربة، والفود معظم شعر الرأس ممّا يلي الأذن وناحية الرأس والمثنى فودان أي على اليمين والشمال، والثالث شهم له من مروءته ما يحمله على نصحك إذا أخطأت، وإقالتك إذا عسرت، وجبرك إذا انكسرت، والدفاع عنك إذا غبت، والإكرام لك إذا حضرت. وما أجمل من قال: وليس أخي من ودني بلسانه ولكن أخي من ودني وهو غائب ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ومالي له إن أعوزته النوائب ولكن أين هذه الأخلاق من الواقع اليوم، فهذا وهب بن منبه وبعد تجربة لخمسين سنة يقول (صحبت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلاً غفر لي زلة، ولا أقالني عثرة، ولا ستر لي عورة)، فهذا في حقه وهو كذلك، فكيف من لم تزل قدمه وإنما خالف في مسألة ربما هو صاحب الحق فيها، خصوصًا وقد لا يكون أخوك قد أدرك رأيك وجزم بمذهبك وتأمل قولك ووعاه، فما أبعد المسافة بين النظرية والتطبيق، وبين القول والفعل. وهذا ابن السماك جعل ثلاث صفات لبقاء المودة بين الإخوة، وذلك عندما سئل عن أي الإخوان أحق ببقاء المودة، فقال (الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يَمَلُّك على القرب ولا ينساك على البعد)، فلا نرى اليوم إلا انتشار سوء الظن والشطط، والتشنج والحدة، والتفتيش عن مواضع الفروق، والفحش في تناولها، والفجور في صاحبها، فضلاً عن الغدر والخيانة، والغيبة والحسد، وأمراض القلوب، فكل هذه ليست من الإخوة الصادقة، لأن الأخوة هي القائمة على المحبة قولاً وعملاً، وتبقى في الدنيا والآخرة، فكل صديق عدو يوم القيامة لصديقه، إلاّ المتقين (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين)، وتحياتي الصادقة لكل الإخوة المخالفين قبل الموافقين والمعتدين قبل المدافعين، مع خالص المحبة. [email protected]