عن بُعد كنت أم عن كثب، لا تملك وأنت ترقبه إلاّ أن تدعو له بالصحة والعافية؛ كونه يشد خطاه بجَلَد وعزيمة ومروءة متناهية، ضاربا عرض الحائط براحة جسده، فرجلاه أظنهما تعبتا من الشكوى؛ كونه في حركة دؤوبة يحمّلهما ما لا طاقة لهما به من تعب ونصب، بحثًا وسعيًا لأجر من الله، وتأدية لواجب، فهو لا يترك أحدًا من الأقارب أو الأصدقاء والمعارف، أو مَن يستنجد به لواجب إلاّ ويهب ملبياً بأريحيّته الفذة، وخلقه الدمث، تجده دائماً في يقظة تامة، ونشاط دؤوب بجسمه وعقله، وكافة حواسّه، يسعده إسعاد الناس بكافة أطياف المجتمع إما بحضور أفراحهم، أو مواساتهم بعزائهم، وما بين هذا وذاك هو يجمع من حوله أطيافاً من صفوة المجتمع الخيرة والتي تجهد لإصلاح ذات البين، بغية صلاح المجتمع وشد أزر ولي الأمر وإعانته على عمل الخير وهم بذلك لعمري يمتثلون لقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). هكذا هي حال أستاذنا حفظه الله، أصبح علامة فارقة في هذا المجتمع المسلم الطيب، فهو جزء من الخير الماثل فيه تصديقًا لقول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الخير فيَّ وفي أمتي إلى أن تقوم الساعة). هكذا دأبه، إنه من الرجال الخلّص الذين أدركوا كنه الحياة، وفلسفة البقاء، ومعنى البحث عن الأجر من الله، واقتناص الفرص في الدنيا لشراء نعيم الآخرة إن شاء الله. أتابع كتاباته بين الحين والحين، وحسبما شاء الله واتسع الوقت، وفي كل مرة أقرأ له ابحث في ثنايا السطور عن دلالة ما في إشارة أو كلمة أو موقف قد يكون لشيخنا بها منفعة شخصية، فلا أجد غير ما يصب في خير المصلحة العامة عبر النصيحة الطيبة الملتزمة والتي ينهل منها كل من أكرمه الله باتباع الهدي والانتفاع بصدق الرجال أمثاله. بينما كنت يوم الأربعاء الماضي أطالع جريدة “المدينة” القريبة من قلبي -اسمًا وتصفحًا- فإذا بي بصورة الرجل الذي أتحدّث عنه تضيء صفحتها التاسعة من ملحق الأربعاء، عبر مقال هادف بنّاء عنوانه: (امرأة تقود لوري) تحدث فيه عن (هيا) المواطنة الشريفة العفيفة، ذات الهمّة العالية، وعزة نفس المرأة المسلمة العاقلة، ذات الحجة والمنطق، والفلسفة العميقة التي يغذي جذورها مخافة الله وعزة الإسلام. بدأت بقراءة المقال، وكنت على عجالة إلا أني لم أستطع إقصاء الجريدة جانبًا، بل وجدت نفسي مشدودًا للغوص في قصة طريفة هادفة، جل ما تصبو إليه هو المصلحة العامة، تناولت ما يفيد المجتمع بأسلوب سلس راقٍ بنّاء، بعيد عن التشنج والتشدد، واستعداء الرأي الآخر أيًّا كان.. إنه أسلوب الدعوة كما أمر الله بها (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة). شيخنا الوقور -حفظه الله- في أسلوبه الشيق السلس، وطرحه المسؤول لمشكلة باتت حديث الناس والمجالس، عبر نقاش ينتج عنه في بعض الأحيان التوافق، والوفاق بالرأي، أو الاختلاف والمعارضة، والصخب والزعل، والصياح عبر جدل أعمى يثير الغثاء حينا آخر. إن شيخنا لم يفته ذلك. فهو بفطنة المسلم المواطن الملتزم يعرض القضية من كافة أطرافها، ويتكفّل بإبراز مصالحها الإيجابية على المجتمع محجِّمًا سلبياتها، ضاغطاً إياها ليسهل بلعها على مَن يعارض (هيا) في قيادتها، بل إنه وبأسلوبه الشيّق، وطرحه المسؤول المتبصر، ورأيه المميز جنّد نفسه للمصلحة العامة، ولخير المجتمع. إن أستاذنا معالي الدكتور محمد عبده يماني، وهو يطل علينا بأسلوبه الشيّق المميّز هذا، إنما يعمق في الذاكرة الصورة السمحة لكل داعية مسلم سمح، أدعو الله لهم جميعاً بالتوفيق وطول العمر وأن ينفع الله بهم المجتمع وأن يرحم من توفي منهم. لست أدري وأنا أخط هذه الكلمات لماذا تحضرني صورة شيخنا الجليل الراحل علي الطنطاوي رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، وكافة موتى المسلمين.