نعيش هذه الأيام في بلادنا انقلابا نوعيّا على كثير من المسلّمات ، فرض بعضه المزاج الاجتماعي الذي كان نتيجة للتحولات السياسية الكبرى. وبعضه فرضه التمرّد على سلطة المؤسسة الدينية التي تعيش اليوم أتعس لحظاتها التاريخية ؛ لعدم وجود شخصية قيادية تتمتع بكاريزما جاذبة ، وتشكّل تأثيرا كبيرا في جيل الشباب الذي بدأ يعلن تمرده عليها ، ولضغوط العصر التي لم تولها المؤسسة الأهمية القصوى ، فجعلها خارج الحسابات . وبعضه الآخر أججته ثغرات اللحظة التاريخية المعاصرة ، حيث وجد فيه بعض المثقفين السعوديين الذين يرون أنهم قيادات تنويرية فرصة للإمساك بدفة القيادة الفكرية ، و تصفية الحسابات مع خصوم الأمس. كل هذا يحدث مع يقيني التام أن الجميع يضعون مصلحة الوطن نصب أعينهم ، ولكن خلاف الأفكار في مجتمع مغلق لن يكون أمرا سهلا ، ولن يمر مرور الكرام . هذا الجدال الدائر اليوم جدل مشروع ،تفرضه اللحظة التاريخية بكل حمولاتها ، ولكنه جدل يفتقد في كثير من قضاياه لحكمة الدعوة ، ورحابة الأفق ، وشرف الخصومة ، وهذا أمر طبيعي ، لا ينبغي أن نستغربه ، ولا أن نشعر معه بالرهاب الجماعي والوساوس القهرية . فالمجتمعات في تحولاتها مرت بهذه المعاناة ، وهي معاناة ممضّة ، ولها قرابينها وتبعاتها القاسية . والفرق بين المجتمعات يكمن في القدرة على إدارة دفة التدافع الفكري بمهارة ، فهناك مجتمعات تمتلك القدرة على الغربلة والفرز والتصحيح ،فتحول التدافع إلى قوة دفع ، وتجعل من الاختلاف قيمة وقامة حضارية ، في حين يصبح هذا التدافع شراكاً منصوبة في مجتمعات أخرى للتشرذم والحروب الأهلية والتنابذ الثقافي . علينا أن نعلم أن ثقافة الوصاية انتهى زمنها ، فالتدفق المعرفي ، وسهولة التواصل مع الآخرين يمنع المركزية في كل شيء . اليوم هناك صحافة إلكترونية أكثر صدقا من كثير من الصحف الصفراء التي صارت إقطاعيات لثقافة الأحافير . وهناك مبدعو ظل يقومون بالصياغة والتصوير والمونتاج والبث بجهود فردية ، يستطيعون من خلالها أن يفضحوا ويوثقوا ما يعجز عنه الإعلام الحكومي ، وحادثة أمطار جدة أكبر دليل على ما نقول ، فقد استطاع مجموعة من الشباب أن يلفتوا أنظار العالم كله إلى كارثة وطنية ، وفساد مالي وإداري لا حدود له . لم يعد بالإمكان منع الناس من الظهور والتعبير عن أفكارهم ؛ لوجود منابر تستقطب الناس بحسب الميول والأهواء . البديل الصحيح هو ترسيخ ثقافة الاختلاف ، وحسن الظن بالناس ، وترشيد لغة الحوار ، وما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه . وهذا طريق طويل في مجتمع تعود على موقف حدي لا يقبل التوسط ، ولا يؤمن فعليا بالتعدد والاختلاف ، فهو ضحية فكر عشائري أحادي الرؤية ، وفكر ديني متشدد في هواجسه ومخاوفه . هذه المعاناة وهذه الجلبة الدائرة اليوم أمر مألوف ، جرى في كل زمان ومكان ، وسينتصر الحق ؛ لأن هذا وعد الله الذي لا يخلف . طلقنا الحضاري مؤلم جدا ، ولن يولد الفجر إلا من رحم الظلمات ، ولكي تكون الولادة طبيعية لابدّ من تحصين المجتمع بفكر الاعتدال الذي يجمع بين المبدأ والمصلحة . إن ثقافة القمع أعظم المعطلات التي تفقد المجتمعات الإرادة الحرة في العمل الخلاق ، وتوجد بيئة جاذبة للصراع والتنابذ ، وهانحن اليوم نصطلي بجحيمها ، وندفع تكاليفها الباهظة . [email protected]