من فقه الدّروشة: أن يُعرّضَ المرءُ نفسَه للإهانة، حتّى تذوقَ الذلَّ والصَّغارَ، وتتعلمَ التواضُعَ والصبرَ، وحتّى تنكسرَ سَورَةُ الكِبْرِ والزَّهْوِ والعُجْبِ والغُرورِ، ولا تكمُل نفسه؛ حتّى يجدَ لذلك لذّةً، وحلاوةً حين يدفع نفسه ليهينَه الناسُ، ويُذلوه أمامَ الخلق؛ بالسبِّ، والطّردِ، والإقصاءِ المهينِ، ويقولَ لنفسِه: ذوقي مرارةَ الإذلالِ بما كنتِ تكسبينه من تعاظُمٍ وتطاولٍ. وسمعتُ شيخًا يقول لولدِه: اذهبْ يا ابن الكلب!! وتعالَ يا ابن الكلب!! ولو سُئل عن ذلك لقال: أريدُ تربيته كما ربّيتُ نفسي على الإخباتِ والتواضعِ.. واحتجّ بعضُهم بقول الشاطبِّي المقرئ، في نظمه المشهور “حِرز الأماني ووجه التهاني”: وقد قيل : كُن كالكلبِ يُقصيه أهلُه وما يأتلي في نُصحِهم متبذِّلا وقوله : يعُدُّ جميعَ الناسِ مولىً لأنهم على ما قضاه الله يُجرون أَفعُلَا والشاطبي -رحمه الله- لم يُرد ذلك، وإنّما أراد حملَ قارِئ القرآن على أن يعرف قدرَ نفسِه، وأن يحاسبَها، وأن لا ينظر إلى الناس بازدراء، فالمسلم لا يحقرُ أخاه المسلم، وأنّه لو وَجد من الناس جفوةً ودفعًا، فعليه أن يجعل ذلك في ذات الله، ولا يملَّ من نصحهم وإرشادهم، وأن يجعلَ الناسَ كأنّهم أهلُه، وكلّما جفوه، وأقصوه عاد إليهم، ولم يقصِّر في نصحهم، كالكلب الذي يقصيه أهله، ولكنه لا يتجافى عنهم، ولا يتنصّل عن حِراستهم، ودفعِ الشرِّ عنهم.. والفرقُ بين هذا وذاك: أنَّ الأولَ متسبّبٌ لما حصل له تسببًا مباشرًا، ونفسَه قصدَ بالأذى، والآخر لم يُرد، ولم يفعلْ؛ فلمّا أُوذي صبر؛ كمن أصابته مصيبةٌ، فصبرَ، ورضيَ بقضاء الله وقدَرِه؛ وهذا محمودٌ في الشرع، مُرَغَّبٌ فيه، والأول مذمومٌ في الشرع، ولدى أهل الفضل والعلم والعقل. [email protected]