التلفيق يختلف عن التوفيق، فالمعروف في أدبيات واصطلاحات الفلاسفة أن التلفيق هو جمع بين شيئين أو أمرين متنافرين، مثل الجمع بين صفة رذيلة وأخرى فاضلة في سلوكيات شخص واحد، أو الجمع بين مُتناقضين ومتعارضين لا يصح جمع أحدهما مع الآخر مثل القول بأن فلاناً من الناس هو طويل وقصير معاً. والتلفيق هو صورة من صور التناقض، وشكل من أشكال الركاكة والهشاشة في التعبير أو الطرح أو السلوك أو التصرف. والتلفيق ينتشر عادة في المجتمعات والأقطار المتخلفة، لا سيما تلك التي تفتقر للحرية والمسؤولية والمعالجات النقدية، وهو يزدهر في أماكن النفاق والرياء والكذب واللامسؤولية. والمتأمل لحياتنا الاجتماعية سيجدنا قد «أدمنّا» التلفيق حتى جعلناه ميزاناً نقيس به أفعالنا، وقسطاساً نتحاكم إليه في تصرفاتنا. من صور التلفيق الكثيرة أننا مثلاً، نشتم الغرب، ونتهمه بأبشع الاتهامات، وندينه ليلاً ونهاراً، ولكننا بالمقابل نعتمد عليه ونكل شؤوننا إليه ونوشك أن نسبح ونهلل بحمده! صحيح أن الغرب قد أجرم بحقنا، ولكن هذه الإدانة يجب أن لا تكون لفظية، وإنما يجدر بها أن تكون إدانة «نديّة» و «جديّة» بأن تكون لنا تكتلات عربية ومشرقية، وصناعات تقنية خاصة، ودول وطنية حرة، وجيوش جرارة وكرارة، وحضارة مزدهرة وشامخة ومتطورة، حينها فلنهاجم الغرب كما نشاء وندينه كما نريد، أما أن نشتمه أثناء النهار ونؤول إليه آناء الليل فهذا ضرب من التلفيق والكذب الضال لا يليق بالأحرار من الرجال. ومن صور التلفيق أننا ندعي التدين والتطهر والحرص على العبادات والطقوس الشكلية، ولكن في الأعم الأغلب تبقى الشكليات مجرد ممارسات حركية وخارجية لا تدل - بالضرورة - على النقاء الداخلي والنصاعة الجوانية. إن هذا النقاء الظاهري لا يتمظهر على شكل طقوس وشعائر ميكانيكية ولكنه - ببساطة - يتم اكتشافه عبر المعاملة، والكلمة الطيبة، والسلوك الأخلاقي والحسن، وهذا ما يمكن أن نلحظ تناقصه وضموره في مجتمعنا. إن الطقوس الشكلية تطغى على النقاء الجواني، وهو ما يؤدي إلى التركيز على حركات ظاهرية وشكلية تخدع السذج من الناس وتوهمهم أن أصحاب هذه العادات الشكلية هم من الأطياب والأخيار، وهذا هو النفاق بعينه. إنه ضرب آخر من ضروب التلفيق. ويتمظهر التلفيق أيضاً عند مدعي التحرر والليبرالية، فهم غالباً ما يهاجمون المتدينين والمحافظين ويتهمونهم بالتخلف والرجعية، ولكن هؤلاء المتحررين المزعومين لا يفعلون أي شيء آخر باستثناء الاستكانة لمنجزات الغرب، والتطبيل والتهليل بانتصارات أمريكا، والتشجيع على اختراق الدول العربية اقتصادياً وسياسياً وحتى أمنياً. هذه التلفيقية الليبرالية يمكن استقراؤها عبر منتديات الإنترنت وبعض الكتابات الصحفية السطحية التي هي أقرب ما تكون إلى المراهقة الفكرية. ولا نستطيع أن نستغرب وجود مثل هذه الظاهرة التلفيقية الليبرالية فهي بالنهاية وليدة مجتمعها الكسيح ونتيجة من نتائج سلطان القوة المتوارثة العتيقة التي تجثم على صدور المبدعين والمصلحين والتواقين للتغيير. وقل مثل ذلك عن المثقفين الذين يفعلون بيمينهم ما يخفونه عن شمالهم، فكم من مثقف يتحدث ويخطب ويعظ وينادي بعظائم الأمور وكبائر القضايا والمسائل ويزعم حله للكثير من المشكلات، ولكنه ما أن يثوب إلى داره حتى يدرك عجزه وفشله حتى عن حل مشكلاته الشخصية في بلده. إنه لا يوجد مثقف واحد إلا ويكون مزدوجاً وذلك بالنظر إلى طبيعة الحياة المنافقة من حوله، والمثقف لا يقدر على أن يكون سوبرماناً ولا شخصاً فوق الطبيعة وخارقاً للعادة، والكثير من المثقفين يعجزون عن التغيير والتعديل والتبديل، فينكصون على أعقابهم، ويعتزلون الحياة الفكرية والصحفية والكتابية في نهاية حياتهم، وبعضهم ليته يكتفي بذلك ولكنه قد يتحول بدوره إلى رجل متخلف وعامي، ويدعم أنساق التخلف والنكوص في مجتمعه، كما هو الحال مع الكثير من المثقفين الحداثيين الذين (تابوا!! ) وصاروا من الوعاظ! وهكذا يصير المثقف بحد ذاته - في بلدان التلفيق - عقبة كؤودة في سبيل الإصلاح بعد أن كان في ماضيه وشبابه داعية من دعاة التطور والتقدم والانفتاح. إن التلفيق هو أمر يمكن قبوله للمضطر، وبشكل مؤقت فقط، على أن يتم علاجه والتعاطي مع أعراضه فور الانتهاء من المشكلة المؤقتة، ولكن أن يتحول التلفيق إلى ظاهرة عامة، وإلى قاعدة أساسية في بنيان المجتمع والدولة، فهذا أمر لا يمكن قبوله ولا استساغته بأي حال من الأحوال لمن يملك أدنى ذرة من التفكير النقدي والعلمي. ولا يمكن خلخلة هذا التلفيق إلا بنقده وتقويضه، ونشر التفكير المنطقي الذي يعتمد بصورة أساسية وجذرية على التناسق في الفكرة والتواؤم في المعطيات والتخطيط المتناسب مع الواقع، فضلاً عن التسامح الأخلاقي الذي يهدف إلى بعث روح الإنسانية في صدور البشر. وإذا ما انتشر هذان النمطان من أنماط التفكير (أعني المنطقي والاخلاقي) فحينها لن يضطر الجميع إلى التلفيق، فهم لم يعودوا جهالاً من بعد (وهنا تأتي أهمية المنطق) ولم يلبثوا منافقين وكاذبين (وهنا تتبلور الأخلاقيات) وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه فإننا لن نعدم ولادة ظواهر أخرى أشد فتكاً من التلفيق. ومعلوم أن الفساد يجر إلى الفساد، ويدعو إليه، فلنحذر إذن من هذا، ولتكن نهاية التلفيق من خلال التفكير المنطقي المتناسق والتفكير الأخلاقي المتوازن، فهكذا، وهكذا فقط، يمكن دحض التلفيق والانتصار عليه.