إنَّ العقائدَ والعبادات لا تُعرف إلاّ من خلال تجليات معتّقديها والمؤمنين بها؛ لأنَّها في البدء والخاتمة سلوكٌ فردي، ينمُّ عن دواخل صادقة مع نفسها، فينبعث ذلك الصّدق على هيئة أفعال ممارسة، وسلوكيّات فعلية تبصرها العيون، وتتحسّسها القلوب، وتشعر بها الخلجات النّفسيّة، ومن ثمَّ يتبعها سلوك جمعي، يُرى بالفعل الجميل، قبل القول الحميد. إنَّها تكاليف تناط بالفرد الواحد، الجماعة الواحدة، والأمّة المجتمعة. يقول تعالى:“ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة”. هذا هو المبدأ الحق في الدّعوة الإسلاميّة أمرًا أو نهيًا.. إنَّه مبدأ دعوي فريد منذ أن بدأت البشريّة تنحو منحى خلاّقًا في القول والسلوك. ذلك المبدأ الفريد تمثّله النبيّ -عليه السّلام- سلوكًا وفعلاً ممارساً في كل ما يصدر عنه من تعاملات مع أصحابه الأقربين والأبعدين من جانب، ومع المخالفين والجاحدين له والكافرين بدعوته من جانب آخر. فآسر بذلك التّمثّل قلوب الطّرفين أصدقاء وأعداء، واستحوذ على عقولهم بصدق الدّعوة حين تمثّلها في كل صغيرة وكبيرة صادرة منه، فكان بحق داعية إلى ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة. وتمثل ذلك السّلوك -أيضًا- أصحابه من بعده، في كل ما يصدر عنهم من ممارسات قوليّة أو فعليّة، فكانوا بذلك التمثّل أداةَ بناءٍ وتعمير، لا أداة هدمٍ وتقويض!. ثم سار على ذلك النهج بعض حَملة ألوية الخير في كل عصر من العصور، حتّى بدا الأمر في تلاشٍ بفعل بعض السقطات الفكريّة، والسلوكيّات المنحرفة؛ إسقاطًا من الحسبان جوهر الآية: مضامين وفحوى؛ كدعوة بالحكمة المرجوة، والموعظة المبتغاة. ومن منطلق التمّثل الصّادق لذلك الجوهر المغيّب في أيامنا هذه، قامت أكبر دولة إسلامّية عرفها التأريخ آنذاك؛ في زمن لا يُعد في حساب التّواريخ والأزمان! حيث كان الفتح الإسلامي فتحًا إنسانيّاً خلاقًا ومدهشًا؛ لا فتحًا همجيًا كم يروّج له البعض؛ أو تكريسًا للغة الدّم، وصليل السيوف، وتصويب الرماح -كما يقول بذلك بعض الجهلة- حين يعرضون للفتوحات التاريخيّة المتلاحقة إبّان عظمة الإسلام، وتوهج أتباعه: سلوكًا خلاقًا يثير الدّهشة من أتباع من الديانات الأخرى في الأماكن المناطة بالفتح. أليس التأريخ خير دليل وأصدق برهان؟! بلى، إنَّ من يقرأ تاريخ الفتوحات الإسلاميّة يلحظ بجلاء ساطع أنَّ الإسلام شعَّ نوره، وعمَّ خيره بين أبناء القارة الأفريقيّة الذين اتصلوا بالبلاد الإسلاميّة في أقل من مائة وخمسين سنة، فهل كان ذلك الفتح فتحًا بالسيوف الدامية، والجيوش الجرّارة..؟ أم كان بالحكمة والموعظة الحسنة..؟!. وما أبناء القارة الهنديّة وما جاورها عنا ببعيد، فأتباع الإسلام في تزايد مطرد إبّان الفتح المبارك حين عُرض عليهم الإسلام عرضًا يُرى بالفعل الحسن، والقدوة المثلى، فبقي المسلمون على ما هم عليه من إيمان واتّباع إسلام. ومن يعد قراءة تاريخ الفتوحات الإسلاميّة قراءة أكثر صدقًا وأمانة؛ يتبدّى له وباعتراف الأعداء أنفسهم أنَّ كلّ تلك البلاد التي دانت للإسلام لم تدن لهم بالقوّة والإكراه؛ بل بالإقناع، والقدوة الحسنة، من خلال تمثّل الدّاعين إليه بالمثل العليا، والدعوة بالحسنى، في ضوءٍ من الممارسة الحميدة، والأخلاق الفاضلة. يقول أحد المفكرين:“وأيسر من استقصاء الحروب وأسبابها في صدر الإسلام أنَّ تُلقي نظرةً في خريطة العالم في الوقت الحاضر؛ لتعلم أنَّ السبب لم يعجل في انتشار هذا الدين إلاّ القليل ممّا عليه الإقناع والقدوة الحسنة، فإنّ البلاد التي قلّت فيها حروب المسلمين هي البلاد التي يُقيم فيها اليوم أكثر مسلمي العالم...” وبعد، فهل نستوعب الدّرس، ونعيد النّظر في جوهر الآية: دعوة بالحكمة المفقودة في الزمن الحاضر، وتمثلاً صادقاً بالموعظة الحسنة؟!