حدث موقف يضيق له الصدر، وقد تعلّمت من تجربة الحياة أن أتجاوز هذه المواقف وأتناساها لأنساها، ولا أسمح لها أن تعكّر مزاجي لحظة ، فضلًا عن أن تؤثر في مسيرتي. وسبّحت ربي؛ فوجدت دواء كأني كنت أبحث عنه؛ فالتسبيح تجديد للعلاقة وعقد الإيمان، واستثمار مع الخالق، لا دخل للمخلوق فيه ولا وساطة، يشعرك بأنه مهما يكن فلديك هذا الحبل الموصول بالله، والذي لا تردد فيه ولا شك ولا نزاع، إذًا فليكن لك منه نصيب. وجدت أن تسبيحة واحدة أو تسبيحتين فيهما بعض التيقّظ كافيتان لمسح كل المعاناة والألم. وحان وقت صلاة لمسافر بعد ذلك، فصلى قصرًا صلاة خفيفة، اجتمع فيها قصر العدد وقصر الكيفية، ووجد أنه حين وضع جبهته ساجدًا لربه؛ يشعر بأن كل محنة تنقشع، وكل ضيق يزول. غمتك من نفسك ومراوغتها وحرانها وضعفها.. أمتُّ في الله نفسًا لا تُطاوعني في المكرماتِ لها في الشر إصرارُ وبعتُ لله دنيا لا يسود بها حقٌّ ولا قادها في الأمر أبرارُ وغمتك من كل محاولة لم تنجح، أو أذى مقصود أو غير مقصود، من قريب أو بعيد، من محبّ كاشح، أو عدو ناصح (أَوَ يَكُون هذا ؟!). كأنك حين تسجد؛ تلقي بالأحمال التي فوق رأسك، وتتخفف منها، فتنهض نشيطًا متوفزًا، وكأنك إنسان آخر. ثم تذكرت أن السجود تسبيح، ومن حديث عقبة بن عامر قال: حين نزل قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1) قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: (اجعلوها في سجودكم) رواه احمد وأبوداود والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فحين تعلن موضعك الصادق؛ بوضع جبهتك على الأرض؛ تواضعًا لعظمته ومجده وكبريائه، وإيمانًا بأن الأمر كله له، والتماسًا للفضل والستر والعافية والتسديد، وبراءة من الحول والطول والقوة إلا منه وبه، تمحو كل ما قبل اللحظة، وتبدأ في سياق جديد، بروح متفائلة رقراقة محلقة، وكأن الحواجز والعوائق كلها تنصهر وتذوب.. اتَّئِد يَاإِمام ! لَاتَرْفَع الرَّأْسَ سِرَاعًا مِن السّجُودِ لِرَبِّي أَنَا لَما تَنسم الرُّوح عَبْر الْأُفْقِ عرفَا عَنْ أَشْرَفِ الْخَلقِ يُنْبِي وَتَطلعتُ خَاشِعًا مُسْتَهَامًا بِجِنَانٍ مُوَلّهٍ مُشْرَئبّ هَامَ قَلْبي بَيْنَ السَّمَاواتِ وَالْاَفْلَاكِ يَسْعَى إِلَيهِ مِن كُلّ دَرْبِ ثُم لَما سَجدتُ في الرَّوضَةِ الغَرّاءِ أرْمِي عَن كَاهِلي عِبءَ ذَنْبِي خِلتُ قَلْبِي أَلْقَي النِّيَاطَ جذورًا فِي جِنَان الْهَوى لِغَرْسَةِ حُبِّي فَاتَّئِد يَاإِمَامُ ! لَاتَرْفَع الرَّأَسَ سِرَاعًا تَكَادُ تَجْتَثُ قَلْبِي. في السجود سر عظيم لا تحتمله العبارات، إنما يدرك بالذوق، ولست من أصحاب الذوق ولا المواجيد، كل ما أملكه هو حسن الظن بالله الذي ملأ قلبي واستبد بكياني، وإن كان يداخلني بين الحين والآخر خوف من أن يكون استدراجًا أو أمنًا من مكر الله، فأردد: لا حول ولا قوة إلا بالله، كلا؛ بل هو ثقة به وبعظيم فضله، وليس ثقة بالنفس، ولا إدلالًا بالعمل.. كيف ولا نفس ولا عمل. بل المقام مقام “تصفير الذات” كما يسميه الشيخ الصالح “محمد فتح الله كولن” تصفيرًا عربيًا؛ إذ الصفر العربي نقطة وليس دائرة، ولعل العربي أحوج الخلق إلى هذا التصفير الآن! تجمّع لي هذا.. ثم سنح لي قوله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)، فذكر ضيق الصدر مما يرى أو يسمع أو يجد، وأمره بالوصفة المحققة: التسبيح والسجود.. إنه شيء وجدته في نفسي، وأيقنت أن كل إنسان هو كذلك، عرضة لأحزان الطريق.. والدواء القاطع لكل ألم هو التسبيح والسجود.. وصفة قريبة المأخذ، سهلة المتناول، بيْد أنها تحتاج إلى مران وتدريب، وقد لا تجد أثرها من أول مرة حتى تتحول عندك إلى سلوك وعادة.. أصدقك القول.. نمت بعدها سريعًا قرير العين.. وصحوت على صوت الأذان وأنا أردد قول مهيار الديلمي: إِنْ كَانَ عندكَ يَا زَمَانُ بقيةٌ مِما يُضامُ بِهَا الكرامُ فَهَاتِهَا