فارق كبير بين الاحترافية في العمل ونقيضها من العشوائية والمزاجية والاتكالية، وأبعد من ذلك عندما تتمكن الاحترابية من تصرفات وعلاقات الموظف بزميله وببيئة العمل عامة. وكل هذه الصفات لها أمثلة ونماذج حقيقية في الواقع الوظيفي، فيما الاحترافية المشبعة بحب العمل والإخلاص فيه تظل بمثابة قيمة عظيمة ، وأعظم ما فيها عندما تكون سمة وخصالاً أصيلة في حياة الإنسان أيا كان موقعه حتى لعامل النظافة في الشارع . ولأن الاحترافية بهذا المعنى الجميل المفيد تعد موضوعا كبيرا وواسعا من حيث المفهوم وسبل التأهيل لهذه الاحترافية، وخلق مناخات محفزة على الجودة والإجادة والتميز، فإنني رغبت التركيز فقط على زاوية محددة وهي حاجتنا إلى نزع المثالب الشخصية من أجواء العمل، ويعود النجاح في ذلك إلى تصحيح البعض لطبائعهم ولنظرتهم للعمل وحقوقه. الملاحظة الأولى والهامة هي ثقافة العمل الغائبة عن الموظف وعن مناخ العمل كمنظومة واحدة، فقد نجد المسؤول يميل كل الميل لصالح موظف أو مجموعة منهم إما لتميزهم، وهو بهذا يكون احترافياً في مسؤولياته.. وربما يبني علاقاته مع الموظفين ومنظومة العمل بناء على انطباعات شخصية،والمشكلة عندما تكون الغلبة للاحتراف السلبي ومحترفين من نوع آخر لا يجيدون سوى تجميل صورتهم على أنهم المخلصون للمدير أولاً وقبل كل شيء، وهذه هي المشكلة التي تقيم جدراناً عازلة عن حقيقة سير العمل وتفتح أبواباً للشللية وتغلق الدائرة بإحكام على المسؤول فلا يرى إلا ما يراه هؤلاء حتى يكتشف الحقيقة متأخرا. بالنسبة لرئيس العمل لابد وأن يتعامل باحترافية عالية، فليس كل ما يسمع يصدق دون تحقق فيعجل بقرارات تعسفية وتمرير قرارات قد لا يدري عن خطورتها إلا بعد فوات الأوان ،ولا يتابع جيدا أداء الموظفين وأجواء العمل والمؤثرات السلبية فيه دون علاجها، فيما نجد نماذج أخرى محفزة لبيئة العمل وأداء الموظفين ويرصد ذلك بنفسه وبدقة بين فترة وأخرى أو مثلما نقول «بالحاسة السادسة» من خلال ملاحظات عابرة فاحصة. كما أن الموظف الذي يضيق بمكان عمله وأجوائه عادة ما يجد لنفسه ذرائع ومبررات للإهمال وضياع ساعات العمل، ويبدي طفشا في وجوه زملائه والمراجعين، ولا يحلل رزقه حيث تدفع له الدولة راتبا مقابل أدائه لساعات الدوام وليس مجرد الحضور فقط ، فإذا غاب أو تأخر أو تراخى فإنه يأكل مالا حراما، ومع الأسف يحدث ذلك دون وخز ضمير. هذه مشكلة حقيقية عندما تتدخل المشاعر الشخصية في القرار أو الاختيار أو العمل وتكون التصرفات عادة بمثابة ردود أفعال حسب ما نحب أو نكره، وانظروا مثلا لموظف عندما يغيب أو يتأخر زميل له علاقته طيبة به فنجده يتستر عليه ويتطوع لإنجاز عمله نيابة عنه دون أن يشعر أحد، وإذا كان هذا الموظف غريما فسرعان ما يقلبون عليه الطاولة عند رئيسه المباشر أو الأعلى. وبطبيعة الحال ليس العمل وحده هو مجال للاحترافية أو نقيضها من السجالات والمنازلات الشخصية، وإنما قد تكون في ثقافة المجتمع . خذوا مثلا الانتخابات أيا كان مستواها ومجالها، نجد اختيار المرشح والتصويت له من البعض ليس لأنه الأكفأ ولا الأقدر وإنما للذي يحبه الناخب أو يتوسم فيه تحقيق مصلحة شخصية عاجلة أم آجلة، وهذه إشكالية أخرى يدفع ثمنها المجتمع والتنمية عندما تغيب الاحترافية والكفاءة في الاختيار. إن دوام الحال من المحال، فالإهمال والفوضى والنفاق والخداع والمزاجية وغلبة المشاعر على المقاييس والمبادئ، كلها أساليب عرجاء، وإذا نجحت في فترة فلا يعني ذلك صلاحيتها لفترات أخرى ، وقد قال أهل الحكمة: «حبال الكذب قصيرة». أما الاحترافية القائمة على الكفاءة والتطوير الذاتي للقدرات والإخلاص والتوازن النفسي،هي لاشك رصيد حقيقي للنجاح وإفادة العمل وجلب البركة في الصحة والرزق والاستقرار.. ويظل توفير بيئة عمل صالحة تقوم على المحفزات والعدالة هي الأساس لبناء ثقافة مثلى ونتائج أفضل. أخيرا إن الاحترافية قصة طويلة تبدأ فصولها مع بداية حياة الإنسان وتتشكل في مراحله المختلفة عبر الأسرة والتعليم وقيم المجتمع وأسس وأنظمة العمل وتطبيقها، وفي هذا نجد شعوبا نجحت في تأصيل هذه الثقافة لبناء الاحترافية الذاتية والجماعية، فيما لا زلنا ننقسم بين الميل لأهل الثقة وبين اختيار أهل الخبرة والقدرة.