الكثيرُ من الدّعاةِ والوعّاظِ والخُطباءِ يُغْفلون الخصائصَ الجماليّةَ ذات القوّةِ التّأثيريّةِ التي يجنيها الخطابُ الأدبيُّ والفنيُّ؛ ما يمكنُ توظيفه في أيِّ رؤيّة إصلاحيّةٍ، أو دعويّةٍ، أو وعظيّةٍ. إنَّ الجَهْلَ بهذا الخطاب، ومن ثمَّ الاتّكاء على الخطاب التّقليديّ المتعارف عليه؛ أدّى إلى (الكسلِ) التّأثيريّ، والسباتِ الّتفاعلىِّ ساقطًا عنه عمليّة التّعاطي معه وبه من قِبل جمهور المتلقّين والمستهدفين. ولقد مرّت سنواتٌ عِجافٌ ونحن نسير على إيقاعِ خطابٍ باهتٍ..باردٍ لا يملكُ مقوماتِ التّأثيرِ؛ بعد أنْ غفلَ المُتْبارون أثر الخطاب الأدبيّ والفنيّ؛ ما أحدث (جفوةً) كُبرى بينهم والجمهورِ المستهدفِ حتّى تكاثرت الأبوابُ الموصدةُ بمغاليق ما أنزل الله بها من سلطان، فأضحى خطابنا مخذولًا لا ترى فيه سوى أماراتِ الانكسارِ أمام واقعٍ لا يقبلُ إلاَّ لغة عصريّة طرحًا ورؤية. ومن هنا علىنا الإيمان بأنَّ الخطابَ الأدبيَّ والفنيَّ من أكثر صِيغِ التّعبيرِ تأثيرًا وجاذبيةً ما يمكن توظيفه في التّقويمِ والتّصحيحِ، فمهما تعدّدت صيغُهُ وأطروحاتُهُ يظلُّ واحدًا من أكثر الصّيغِ قدرةً على الإثارةِ والإقناعِ والتّأثيرِ. لستُ من المبالغين إذا قلتُ: إنَّ القرآنَ الكريمَ، والحديثَ النبويَّ الشريفَ مع تنوّعِ أساليبِهِ التعبيريّةِ -ترغيبًا وترهيبًا- لم يهملْ -قط- التّعبير الأدبيّ والفنيّ في خطابِهِ للمؤمنين والكافرين على حد سواء. حضرت القصةُ لمحة أو تفصيلًا فأثمرت توجيهًا وإصلاحًا. وحضرت الجنّةُ والنارُ -مثلًا- فعلت المشاهد حِراكًا فنيًّا، وصورًا متلاحقةً. وحضر مع ذلك كلّه الصوتُ البيانيُّ لسانًا ناطقًا، فكانت البلاغة تتدلّى جمالًا وإيقاعًا حدّ الدّهشةِ والإبهارِ. مع هذا ظلَّ البعضُ ينظرُ نظرة دهشةٍ إلى كلِّ أولاء الذين يُبدون اهتمامًا بتلك الفنون، وما يتصل بها من أدوات التأثير، وباتوا يحكمون على المتعاطين معها باختيار الأدنى!! وهكذا يصيرُ النشاط الأدبيّ والفنيّ في نظرهم (أحبولة) يمدّها الشيطانُ؛ كي يوقعهم في الغوايةِ والضّلالِ، كما يصف أحدهم. إنَّ الكثيرَ من الوعّاظِ والدّعاةِ يعتبرون الفنَّ عمومًا، أمرًا ثانويًّا يحمل صبغة العبث في صورة من الصّور؛ بل إنَّ بعضَهم يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، فيرى في الآدابِ والفنونِ جميعها بواباتٍ للفسادِ، ومزالقَ تقودُ إلى حافاتِ المروقِ والضلالِ. ونسوا أنَّ هذا التّقدمَ الأسطوريَّ في تقنيات الخطابِ العصريِّ -أدبيًّا وفنيًّا- أداة مطواعة لمفاتيح الخيرِ والشرِّ كلٌّ بحسبِهِ، ودعكَ من التّفننِ في إخراجِ الكلمةِ المكتوبةِ، والفكرةِ المصوّرةِ، عبرَ الكتبِ والمجلاتِ والصّحف السّيارة، في عالمٍ متقاربٍ يزدادُ التصاقًا يومًا بعد يومٍ، فغدا قريةً صغيرةً لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يهربَ من مرئياتِها ومسموعاتِها التي تطرقُ رأس الإنسان المعاصر، وسمعه، وبصره؛ صباحَ مساء. فهل يستوعبُ دعاتُنا -بارك الله فيهم- هذا التحوّلَ الكبيرَ في التّعاطي مع آليات الخطابِ العصريَّ؟! أم سيصرّون على موقفهم العدائيِّ منه مع ما يحمله من قوةٍ تأثيريّة؛ أسلوبًا وأداةً في زمن نحن أحوجُ ما نكونُ فيه إلى تنوّعٍ في أساليب التّأثيرِ حتّى لا يُصاب المتلقي ب(كسلِ) الإفادةِ، و(عقمِ) التّواصلِ؟!