لا تبدو التساؤلات والتكهنات حول إمكانية حدوث حرب جديدة ضد غزة، هامشية في القطاع المحاصر، بل هي تكاد تكون يقينا هناك سواء بين السياسيين أو الباحثين أو المواطنين أنفسهم، فارضة نفسها بقوة وخاصة بعد انتهاء الهدنة غير المعلنة بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية في القطاع والتي سادت بعد انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة ، وعودة مشاهد القصف الجوي واستهداف المقاومين وتدمير البنية التحتية من قبل الطائرات الإسرائيلية إلى الواجهة من جديد، وفيما يحتدم الجدال حول المبررات التي قد تسوقها إسرائيل لشن حربها ضد القطاع يبدو أن مواطني غزة يؤمنون بأن هذه الحرب قادمة قادمة. تسويق الأسلحة "إسرائيل ليست بحاجة إلى تبرير سياسي لشن الحرب على قطاع غزة، بقدر ما هي بحاجة إلى تسويق الأسلحة التي تنتجها "، هذا ما يؤكده نظير مجلي أحد أهم المختصين من عرب 48 بالشؤون الإسرائيلية، ، والذي يعتبر أن المحرك الأساسي لكل التطورات الأخيرة في القطاع هو رغبة إسرائيل في دفع المقاومة الفلسطينية لإمطار البلدات القريبة من الحدود بصواريخ محلية الصنع لكي تجرب النظام الجديد المضاد للصواريخ القصيرة المدى والمسمى ب"القبة الحديدية" ، وبخاصة مع وجود اهتمام دولي واضح به من قبل الولاياتالمتحدة وفرنسا وإيطاليا والهند وعدد آخر من الدول. ويضيف مجلي قائلا: " أنا لا استبعد أن تقوم إسرائيل بحرب من أجل تسويق هذا السلاح الجديد، فهذا التصرف ليس جديدا على القادة العسكريين الإسرائيليين، الذين شنوا في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي، آرييل شارون حربا عرفت باسم "السور الواقي" حاصرت خلالها الرئيس الراحل، ياسر عرفات، وخاضت معارك شرسة ضد مخيم جنين، ولم يكن ذلك كله من أجل ما أعلنته من مبررات، بل لتسويق دباباتها الجديدة من طراز مركفاه 4 ، ولإعطاء الأمريكيين نماذج عن حرب المدن، نظرا لأنهم كانوا يستعدون لحربهم ضد العراق". ويستحضر مجلي هنا تهديدات قائد اللواء الجنوبي، الجنرال يوآف جالانت، الذي أكد على أن "الحرب على قطاع غزة حتمية، وإن الهدوء على الحدود الجنوبية مع قطاع غزة ألا يخدع أحدا وهو مؤقت ". ويؤكد مجلي أن هذا الرجل كان أحد أبرز المخططين والقادة الميدانيين لحرب غزة عام 2009، وأحد الذين واكبوا تطوراتها وأشرفوا على سير عملياتها بشكل مباشر، والمشكلة الأكبر أن هذا الرجل هو "المرشح الأبرز" لتولي منصب رئاسة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، خليفة للجنرال جابي أشكنازي، الذي سيتركه منصبه بعد عشرة شهور، مما سيدخل القيادة العسكرية الجديدة في مرحلة إثبات الذات وتحقيق ما يخطط له، للظهور أمام العالم في صورة الدولة التي تستخدم أفضل الأسلحة وهي الصورة التي تفضلها إسرائيل دائما. أهداف تجارية ويوافق ناصر اللحام وهو مراقب للشان الإسرائيلي مجلي في معظم ما جاء به، ويرى أيضا بأن أهداف الحرب الأخيرة على قطاع غزة كانت لأهداف تجارية وترويجية بحتة للأسلحة الإسرائيلية، وهو ما تسعى لتكراره مرة أخرى ، ويضيف : " كانت تلك الحرب عملية عرض كبيرة لمختلف الأسلحة الجديدة التي صنعتها إسرائيل، بدءا من الصواريخ الملاحقة للأفراد، ونظيرتها الموجهة للنوافذ، والطائرات التي تعمل دون طيار المستخدمة لاستهداف المقاتلين، والأخرى المستعملة في المراقبة، مما أغرى دولا كثيرة بشراء تلك الأسلحة، فكان من بين الدول التي اشترت من تلك الأسلحة بعد الحرب مباشرة، الولاياتالمتحدة نفسها، وروسيا وألمانيا وتشيكيا والهند ". لكن اللحام يرفض نظرية مجلي القائلة باحتمالية قيام حرب على غزة في وقت قريب، مبرر ذلك بالقول: " إن الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتنياهو لا تقدر على شن الحرب أو حتى على إحلال السلام بسبب هشاشة تركيبتها، وكل ما تستطيع فعله هو إبقاء أجواء التوتر قائمة بالمنطقة، وتوتير الشارع الإسرائيلي أيضا، عبر إقرار عدد من المناورات العسكرية هنا وهناك، أو توزيع الكمامات الواقية للغازات السامة على سكان بعض المدن القريبة من قطاع غزة، حيث أن ذلك يحافظ على رفع شعبيتها ويدفع الجمهور الإسرائيلي إلى التمسك بها، حتى تحين الفرصة المناسبة لشن هذا العدوان مع وجود حكومة أكثر ثباتا ". لم يحن الوقت المحلل السياسي والخبير في الشؤون الإسرائيلية، برهوم جرايسي، يرى هو الأخر أن الوقت الحاسم لشن إسرائيل لحرب جديدة على قطاع غزة لم يحن بعد على الرغم من وجود هذا الخيار في قمة أجندتها ، فالإجراءات العسكرية و السياسية لم تأخذ منحى الحرب حتى الآن ، ومستوى التصعيد محسوب للغاية من قبل القيادات الإسرائيلية ، رابطا ذلك بإعطاء أولوية في الوقت الحالي لفرض الحقائق على الأرض في القدس والضفة الغربية ، مع التجهيز لخيار عسكري يمكن ان يستخدم في أي وقت . ويضيف جرايسي : "الحكومة الإسرائيلية لن تستطيع شن حرب مثل هذه دون تهيئة الرأي العام والجبهة الداخلية بإسرائيل قبلها من خلال إعدادهما نفسيا وتعبئتهما لدعم هذه الحرب، وهو أمر لم تقم به حكومة نتنياهو حتى الآن ". وينوه جرايسي " إن الحرب الحقيقية هي تلك التي تشنها إسرائيل دون هوادة ضد قطاع غزة منذ أربع سنوات ، وهي الحصار المفروض على القطاع، والذي يمس كافة نواحي الحياة الإنسانية هناك، مع تحوله إلى سجن يقتل ساكنيه ببطء شديد”، ويختم “إنها حرب لحرمان مليون ونصف المليون من حقهم في الحياة ونيل لقمة عيش ليست مغمسة بدمائهم ". هل استعدت غزة ؟ على الجانب الأخر من المشهد يبدوا قطاع غزة أكثر اعتقادا بأن الحرب يمكن أن تندلع من جديد في أي لحظة وأن اختلفت الآراء بشكل كبير بين من يرى أن القطاع مستعد لمواجهة هذا العدوان وبين من يؤكد أن الوضع في القطاع هو أصعب من الفترة التي سبقت الحرب الماضية. فمن جهته يؤكد طاهر النونو المتحدث باسم الحكومة المقالة في غزة أن التجربة العميقة التي مرت بها حكومته خلال الحرب أكسبتها خبرة كبيرة في التعامل مع أي حالة مشابهه ، مشيرا إلى وجود نظام كامل للتعامل مع حالات الطوارئ يضمن تسيير الأوضاع في القطاع حتى لو تم ضرب المنشآت و المباني التابعة للحكومة كما حدث في الحرب السابقة ، ويشمل خطط لتنظيم عمل الدفاع المدني والإسعاف وضمان توفير مخزون ملائم من السلع الأساسية . ويشير النونو إلى أن الدرس الكبير الذي استفاد به من الحرب السابقة وتم بناء خطة الطوارئ الحالية عليه هو تقسيم قطاع غزة إلى مناطق صغيرة الحجم وتوفير متطلبات كل منطقة في داخل نطاقها ، وبخاصة ما يتعلق بطواقم الإسعاف والدفاع المدني ، وذلك لأن سياسة الاحتلال مبنية دائما على فصل مناطق قطاع غزة عن بعضها البعض ، ووصل الأمر في الحرب الأخيرة لفصل الأحياء في داخل المدينة الواحدة، ويقول النونو “هذا دفعنا لنفكر في آلية لضمان وصول أطقم الطوارئ لكل الأماكن التي يحتمل سيطرة الجيش الإسرائيلي عليها”. وضع لا يحتمل وترى منظمات حقوق الانسان الموجودة في قطاع غزة والتي تابعت عن كثب تعامل الجهات المختلفة مع أزمة الحرب على غزة والاستعدادات الحكومية و الشعبية لأي حرب قادمة ترى أن الوضع في القطاع لا يحتمل أي حرب جديدة ، مؤكدة في عدد من التقارير التي صدرت تباعا عنها فشل حكومتي رام اللهوغزة حتى الآن في معالجة أثار الحرب السابقة وهو ما يعني عدم وجود إمكانية لاستيعاب نتائج حرب جديدة مهما كانت محدودة. وفي هذا السياق أكد بهجت الحلو الباحث في الهيئة المستقلة لحقوق المواطن أن آلاف الفلسطينيين مازالوا يقيمون في العراء في مناطق خطرة جدا بعد أن هدمت منازلهم خلال الحرب وهو ما يعني أنهم سيواجهون أي العدوان الإسرائيلي جديدة دون وجود أي مأوي لهم ، والنتيجة ستكون سقوط شهداء بأعداد غير مسبوقة. ويضيف الحلو :" من الواضح تماما أن الانقسام يؤثر على التعامل مع نتائج الحرب السابقة، وأن المجتمع الدولي يستفيد من هذا الانقسام للتهرب من استحقاق إعادة اعمار غزة، وبالتالي فإن قيام إسرائيل بشن حرب جديدة سيعني تحول قطاع غزة بأكمله إلى كومة كبيرة من الركام المحاطة بآلاف الخيام والتي ستصبح المأوى الأساسي للمشردين الذين يمنعهم الحصار من كل مواد التي تستخدم في إعادة بناء بيوت لهم.