الميداليات والدروع لا تطعم خبزا ولا تعالج مريضا ولا تستأجر بيتا أو حتى تساعد في ذلك وهي حقيقة واجهها أبناء المبدعين وأسرهم الآن وسابقا. فحين يكرّم المبدع وتنهال عليه المدائح الفخمة والخطب الرنانة ثم ينفضّ السامر تظل المعاناة سيدة الموقف حين يتجاهل الجمع طوعًا أو تغاضيًا أو عدم استطاعة، ظروف المبدع. وقد أثار هذا الموضوع الكامن في ذات كثير منّا الحديث الأخير لأبناء الشاعر الثبيتي وكثيرين قبلهم. أليس المبدع مواطنا ذا دخل محدود في الغالب يكدح لتوفير اللقمة والإيواء لأطفاله وملاحقة شهقات ابداعه هنا وهناك حتى اذا ما كانت بعض انفاسه من القوة ان اسقطته ارضا تنادوا بالفارس الهمام الذي مات او رقد في كمده. قد يضطر المبدع الى طرح ملفات عوزه او مرضه وتفاصيل حياته امام الجميع وكلنا يعلم ان الابداع لا يجدي في زمن الملايين بل في كل الازمان فهو كما اطلق عليه طه حسين (اشفاق واملاق) اي لا يطعم بسكوتا او حتى خبزا كما يعتقد البعض. وقد عاصرنا حاضرا وماضيا معاناة الكثير من مبدعينا وعايشنا تفاصيلهم الموجعة ولا أودّ ذكر أحد بعينه لأن ذلك يؤلمني ولا يضيف على المعروف عند الجميع. كما يزيد من مساحة المرارة الكامنة في تجاهل غوائل الدهر وفعلها في الإنسان مهما سمقت مكانته الفكرية لأن بعضهم باع مكتبته، والكتاب عند المبدعين جوهرة نفيسة ومنهم من تضوّر على ابواب اللئام ومنهم من طاردته الشكاوى والاستدعاءات وأقساهم على الإطلاق من أرقده المرض وهم كُثر. وشاء حظ بعضهم أن وجد في جهود الاصدقاء والخلصاء عزاء وخلاصا مؤقتا وانزوى الكثيرون متلفّعين ببرد الجفاء وقشف الحياة. فعندما سقط البعض تحت طائلة المرض والعوز احتار اصدقاؤه اين يتوجهون وطرقوا العديد من المؤسسات الثقافية التي توقعوا دعمها وأدهشتهم سلبية الرد وقد نجد لذلك سببا منطقيا حيث ان تلك المؤسسات الثقافية تسير وفق خطة وميزانيات محدودة لا تتسع لمثل هذه الاوضاع التي تتطلب تنظيما إدرايا وماليا خاصا. وقد تحملت الدولة مشكورة علاج الكثير من المبدعين ولكنها حلول فردية نودّ أن تترجم الى أخرى جماعية تشمل كافة المبدعين تحت مظلة مؤسسة ثقافية رصينة فلماذا تأخر إنشاء ذلك الصندوق اكثر من ثلاثين عاما او يزيد فقد بدأ الحديث عنه منذ انشاء جمعية الثقافة والفنون في جدة ثم في النوادي الأدبية وفي رعاية الشباب وما زال الحلم يحمل مسمى مشروعا لم يشرع به بعد.ولحيوية الموضوع واهميته القصوى للمبدعين فقد نوقش وطرح عشرات المرات وتداولته الاقلام من كل الجهات ولكن ذلك لم يترجم الى خطوة عملية الى الآن. إن للمبدعين في كل انحاء العالم عربيا واجنبيا مؤسسات تمثلهم وترعى شؤونهم وتدافع عن مصالحهم ومتطلباتهم في السراء والضراء. فلماذا ونحن بلد العطاء نتجاهل المبدعين وننتظر سقوطهم لنكتفي بالحسرات والمقالات وهم الذين يقدمون عصارة فكرهم وجهدهم لهذا المجتمع. وقد استبق المبدعون المؤتمر الثالث للأدباء السعوديين بالتكرار الملح لهذا الطلب ولكنه جاء توصيات كما أتى دائما وبقي طيّها نقطة في بحر. وقد انشأت وزارة الثقافة والإعلام ودعمت مؤخرا الكثير من مؤسسات المجتمع المدني كجمعية التشكيليين والمسرحيين والفوتغرافيين ، وصندوق المبدعين أحد مشاريع المجتمع المدني التي تنتظر التفعيل بدعم الدولة وجهود المجتمع ، فأهميته لا تقتصر على الظروف الآنية والقاهرة التي يواجهها المبدعون بل تمتد لتشكل سقفا شاملاً وحيويا يسهم في تنمية ورعاية الإبداع ودعم الإنتاج الفكري ونشره. ولا يتأتى ذلك إلا بمؤسسة منهجية منظمة تقوم على التخطيط وعناصر تتناسب مع طبيعة مجتمعنا ومناخه الفكري والاجتماعي ويمكننا الاستفادة من الكثير من التجارب الثرية حولنا خاصة في المجتمعات التي تلتقي مفاصلها الفكرية معنا كما يمكن الاستنارة بآراء المبدعين في استطلاع عام او خاص يجترح الحلول ويطرح المبادرات الخلاقة والافكار العملية. ونأمل أن يرى هذا المشروع تحققا ويبرز إلى النور بعد عسر طويل على يدي الشاعر الأديب وزير الاعلام وهو رحب الفكر لكل جديد.