لا نتكلف جهداً كبيراً, أو مشقة قصوى, ونحن نتأمل واقعنا في التعامل مع السلطات في واقعنا أياً كانت؛ فالسلطة -أية سلطة- تتجسد عادة ضمن صورة أفراد وشخوص معينين, ولا تتجسد ضمن تنظيمات وأطر مؤسساتية مجردة. إن التجسيد عكس التجريد, وهنا يكون التجسيد متضمناً في شخص المسؤول نفسه, أو الموظف, أو البيروقراطي, ولكنه لا يتموقع في دائرة تنظيمية أشمل, أو هيكلية وظيفية أعمق. سبق وأن كتبت مقالاً بعنوان “في نقد المنشآت المؤسساتية والإدارية” أوضحت فيه أن الخلل في نقدنا الاداري يتمحور لا في بحث الغاية أو الأصل الذي تنشئ له هذه المنشأة أو تلك, ولكن في التوجه غالباً حول الحديث عن الأشخاص والإمعان في تحليل سلوكياتهم, إن قدحاً أو ذماً. والحقيقة أن هؤلاء الأشخاص والمسؤولين أنفسهم لا يمكن أن تحلل أفعالهم دون الرجوع, أولاً, إلى الأصل الوظيفي الذي ينطلقون منه. والناظر إلى الفهم الشائع والسائد عن السلطة سيجده مقتصراً في الأعم الأغلب على الإعلاء من مكانة الشخص الذي يقوم بالوظيفة -أي الموظف- لكنه لا يدقق كثيراً ولا حتى بنفس المستوى بحقيقة ما يقوم به هذا الشخص أو ذاك. نجد من البديهي لدينا أن مدير المنشأة والمؤسسة يتم تقديره والنظر إليه بعين الاحترام ضمن مسلمة هشة وتقليدية وهي أنه “الأكثر استحقاقاً” مع أنه ببساطة قد يكون اشترى منصبه بماله, أو ورثه من ذوي القربى! وهذا الأمر لا ينطبق على قطاع محدد فحسب, بيد أنه يوشك أن يكون تعميماً كاملاً على كافة مفاصلنا المؤسساتية, حيث تكون النظرة تجاه المسؤول المفرد أكثر أهمية من النظرة للأداء الوظيفي والإداري في ذاته. وتتضخم خطورة هذه المسألة حينما ندرك أننا لسنا مجتمعاً مؤسساتياً بالمعنى الحقيقي والعملي لهذه الكلمة, بل نحن مجتمع “افراد” يسيطرون على أفراد أُخَر, وفي وسط هذه المعمعة من السيطرة الفوقية تتلاشى ثقافة الأداء والإبداع وتتسرب ثقافة مسح الأجواخ. نعم إن أي وظيفة كبرى قد تكون ذات مسؤوليات جمة, ولربما كان هذا المسؤول الكبير مستحقاً -بالفعل- لما وصل إليه, لكن هذا أيضاً لا يبرر السلوكيات الكاريكاتيرية والكرتونية بإزائه, فهي سلوكيات لن تزيده نفعاً هذا إن لم نقل بأنها ستثبط من همته وتدفعه هو الآخر نحو التراخي والاتكال. فضلاً عن كون هذا السلوك نابعاً عن ثقافة غير تنظيمية ولا عملية ولا مؤسساتية, فجزاء المحسن أن يقال له أحسنت, لا أن يُحرق له البخور. والحقيقة أن الإبداع لا قيود له, والأداء نفسه لا يجب أن تتم إعاقته عبر كيل الثناءات والمدائح التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً, فثمة فارق كبير مثلاً بين التقدير, أي إعطاء المجتهد حقه ونصيبه من الاهتمام, والمديح, الذي هو آفة كبرى من الآفات السلوكية! والمتأمل في خطابنا الثقافي نفسه, ولن أقول الإداري فقط, سيجده خطاباً شخصانياً وليس خطاب إطارات وتنظيمات, بمعنى أنه ينزع نحو مراقبة الشخص نفسه كشخص, وليس مراقبة أدائه الوظيفي مثلاً, و دراسة الجانب المراد دراسته فيه. فاللاعب الرياضي على سبيل العيّنة, ينظر له في حياته الخاصة كما ينظر له في أدائه داخل الملعب. والمدرس أيضاً يتم التدقيق على تفاصيل حياته الشخصية كما يتم التدقيق على عمله. والحقيقة أن هذه النزعة نفسها هي أكبر عائق أمام فهم الأداء الإبداعي وظيفياً وحتى اجتماعياً, فالحيوات الذاتية والخاصة هي من اختصاص اصحابها وليس سواهم, أما الحياة الإدارية والأدائية فهي من اختصاص الجميع وللكل حقه في نقدها وتصحيحها وتقويمها وتقييمها. وإذا ما تم إدراك هذه المشكلات الوظيفية والأدائية سندرك لماذا يوجد انحطاط في إدارة المنشآت والمؤسسات لدينا, فالسمة الطاغية في فهم الوظيفة هي أنها متعلقة بالفرد نفسه وعبقريته وألمعيته, الى آخر هذا الكلام, أما لو تم إيجاد أطر تنظيمية حقيقية وصلبة, فحينها لن ينقص هذا الفرد من جودة الأداء بل سيكون الهامش واسعاً أمامه للإضافة والإبداع, فضلاً عن إتاحة الفرصة للنقودات والتصحيحات الخارجية والوافدة من الأطراف المعنية بتقويم الأداء وتصويبه. أما إذا بقي الحال على ما هو عليه من “تمجيد” و“تبجيل” أجوف لمناصب خاوية وعقول فارغة ونظرات سطحية وقصيرة في أمدها, فحينها سنظل على ما نحن عليه من تقهقر وتراجع واتكالية وسلبية, بل إن هذه الأخطاء تتراكم بمرور الوقت ويصبح من الصعب حقاً تجاوزها, وستحصد الأجيال القادمة ما زرعناه نحن في طريقها من شوك وحسك.