1-ليس بالضرورة أن يكون كل من يتبنى خطاباً دينياً (إفتائيا أو دعويا أو تعليميا) أن نطلق عليه عالما دينيا أو عالما ربانيا يجب تنزيهه في كل الأحوال، ولا ينبغي محاورته أو معارضته، انطلاقا من مقولة إن»لحوم العلماء مسمومة»أبدا، التي تناقلتها الأجيال باعتبارها حديثا نبويا صحيحا، وإنما هي في الحقيقة-من خلال بحث معرفي لدقيقة واحدة-قول للحافظ ابن عساكر(رحمه الله)، أو بدءا من التصور الآخر باستحالة وجود(رأي ورأي آخر في الدين)بحسب وعي خاطئ يزعم التطابق الأبدي بين الدين-ذاته-والخطاب الديني، الذي قد يقدم قراءة مشوهة-لذلك الدين الخالص-تجئ متوترة انفعالية، تفضي إلى(الإرهاب)إياه في كل مرة، وإلى الارتهان إلى زمن الإقصاء والتكفير، الذي بدأ في مجتمعنا منذ ما يقارب (الثلاثة)عقود ولم ينته!.. والحقيقة أن لا عصمة لبشر بعد سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أيا كان، كما فهم ذلك بذهنية ثاقبة الرعيل الذهبي الأول لعلماء خطابنا الاسلامي، الذين كانوا لا يجزمون بقطعية مفرداتهم دائما، فالامام أبوحنيفة كان يقول:»هذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي آخر قبلناه، والامام مالك يقول:»إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة» والامام أحمد كان يحذر من أن يقلد دينه الرجال ويقول:»لاتقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا»وشيخ الاسلام ابن تيمية كان يختم هذا المشهد المتألق وعيا بقوله»من نصب شخصا، كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والعمل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا». 2-إن الخطاب الديني المتطرف بالغ الخطورة على الدين ذاته وعلى المجتمع كله، ويؤكد على ذلك احد عقلائنا وهو يذهب إلى ان أكثر الأفراد ضررا على مجتمعاتهم»نصف عالم ونصف فقيه ونصف طبيب»لأن مخرجاتهم الخاطئة تسبب القتل والموت مباشرة!كما تكمن خطورة ذلك الخطاب المتوتر في نسبته للدين الخالص وفي التأثير العاطفي على مجتمع(بسيط)لطالما كان يمثل له ذلك الخطاب مصدر ثقة واطمئنان! يؤكد على ذلك ما تناقله عامة الناس بعد(صحوتهم)المزعومة من تصنيفات جاهزة لحداثيين وعلمانيين وتغريبيين، طالت أسماء كثيرة من(مواطنينا)لم يتبنوا سوى خطاب أدبي أو نقدي (في فنون الأدب)، ولاشك ان الحملة الشرسة على اسم كعبدالله الغذامي معروفة لدى الكثير لدرجة ان مصاحبيه في احدى حملات الحج الأخيرة لم يرضوا بالصلاة معه ولم يردوا عليه تحية الاسلام!ولاشك ان لدينا من حكم بالكفر على روائي ما بسبب جملة قالها على لسان شخصية متخيلة، أو أفتى بردة من قال بالفرق بين الخلوة المحرمة والاختلاط. . وبعد فهل نردد»كيف ظهر لدينا هؤلاء الارهابيون؟». وبالتأكيد فإن المرء يدهش-أشد الدهشة - من الذين وضعوا (حداثة)الثمانينات الشهيرة في مواجهة ضدية مع الاسلام-بذلك الخطاب المتطرف إياه-من أجل قصائد تفعيلية ونظريات نقدية ادبية خالصة!. . كان الأمر في غاية البساطة حقا. 3-كان الأجدر بنا أن نترك تلك التصنيفات والمسميات(المستفزة) والتيارات المتصارعة وأن نختصر كل تلك المشاريع النهضوية - من خلال فهم عميق للدين وشعور وطني حقيقي - في فكرة (الانسان الحديث) الذي سيكون بالضرورة هو النقيض المقابل للانسان التقليدي السكوني الذي سيتخلى-بتقليديته وسكونه-عن الامانة التي كلف الله بها عباده عمارة الكون في كل ازمانه. . هذه العمارة التي توقفت لدينا منذ القرن الخامس الهجري. وجود(الانسان الحديث)لدينا ليس فكرة نقبلها او نرفضها، كما ليس معقولا وجود انسان جاهل أمي في عصر العلم والمعرفة، وبالتالي فإن أي أمة ترفض ذلك(الانسان الحديث)فإنها تحكم على نفسها بالتلاشي(هل تلاشينا فعلا؟)ولاشك أن أكثر المؤسسات حاجة لذلك الانسان هي المؤسسة الدينية لأنها(واجبة)ولا يتحقق فعاليتها إلا(بواجب). 4-أما سمات هذا(الانسان الحديث) فهي»الانفتاح على تجارب الآخرين-الاستقلال الذهني عن سلطة الرموز البشرية دينية أو تعليمية أو ثقافية وانتقال الولاء للمنظومة الكلية. . الحكومة مثلا - الطموح الذاتي والجماعي لتحقيق أهداف مهنية وثقافية عالية-الثقة بقدرة الذات الواحدة على اتخاذ دور فاعل في الشؤون المدنية والمجتمعية والسياسات المحلية-الايمان بأهمية العلم وانحسار ذهنية الخرافة والاسطورة والقدرية المتجردة من اتخاذ الاسباب الدنيوية، وهذا التماهي مع الخطاب العلمي يتوافر بدوره على عدة شواهد أبرزها:البناء التراكمي للمعرفة-التفكير وفق منهجية منضبطة - الشمولية واليقين، فالانسان الحديث يفكر بطريقة شمولية تتسع لفضاء التجربة كله[هل تنطبق هذه الشمولية على الشيخ الأحمد مثلا وهو يدعو لهدم المسجد الحرام بحجة الاختلاط؟مع إن الموضوع يهم العالم الاسلامي كله وما رآه مبررا قد لايكون كذلك عند المسلمين وعلمائهم في الدول الاسلامية الأخرى] ((بيكون، أليكس أنجلز، فؤاد زكريا، آلان شالمرز، باشلار)). 5-العجيب والمدهش والمرير ان تجليات هذا(الانسان الحديث) قد وجدت أو كادت أن توجد لدينا - تماما - في بداية تأسيس هذه الدولة الرشيدة بفكر مؤسسها العظيم الملك عبدالعزيز آل سعود، لولا أن ظروفا طارئة حدثت بعد ذلك أوقفت - أو أجلت - نمو ذلك الوليد المشروع. كان مجتمعنا قبل أكثر من ثمانين عاما يتوافر على قيم دينية وانسانية حقيقية من التكافل والتواد والتسامح والوطنية-حتى ان جيل الناشئة والشباب التائهين الآن كانوا آنذاك مفعمين بالحس الجمعي والروح العملية المتوقدة والشعور الحاد بالمسؤولية. كان مثقفو تلك الفترة ينادون مواطنيهم بأن «يعيشوا الحياة الحديثة، ويفكروا بعقولهم، ويكونوا أحرارا وعقلانيين، وأن يتبنوا مفهوم التقدم الحقيقي، وألا يقدسوا الأشخاص والرموز ويرتهنوا إلى النمط الواحد، أو أن يتلقوا أفكارهم من خارجهم أو أن يبحثوا عنها دائما في الماضي السحيق». . وبعد. فهلا بدأنا البحث عن هذا (الانسان الحديث) فينا-أولا-فهو (اختيارنا)الوحيد لنحقق شروط خلافة المولى - عز وجل - على هذه الأرض المكرمة.