شرعت في الرّد على مقال الأخ أحمد دقاس الّذي نشره في ملحق الرسالة يوم 12 ربيع الثاني 1431ه، موقنًا بأن أحمد لا يقرأ، وإذا كان يقرأ فهو لا يفهم. وبعد أن كتبت هذه الجملة استعذت بالله من الشيطان؛ وقلت: قد أكون ظالمًا للرّجل؛ فجعلت الإنترنت بيني وبينه، لعلّي أجد فيها ما أفهمه عنه من خلال ما بحث فيه وكتب، فلم أجد سوى هذا المقال الوحيد؛ علمًا أنّه عرّف نفسه في آخره بأنّه باحث وكاتب؛ فزاد يقيني بما تبادر إلى ذهني أول مرّة. ولولا ثلاث كلمات جاءت في مقاله، هي الفجاجة والتّعصّب والعداوة، لما عدت إلى مواجهات الشّيخ الظاهري، ولا إلى ردي وتعليقي على بعض ما جاء فيها، ولما حفلت بالرّد على ما جاء في مقاله مطلقًا. لا ريب أنّه ما حفّزني على الرّد عليه إلاّ قوله إنّ في مقالي شيئًا من الفجاجة، وجعله إياي في صفوف المتعصبين، وإيهام القارئ أنّني عدوٌّ مبين لابن عقيل؛ فليصبر على الرّد وليتحمّل. قسم الأخ أحمد مقاله إلى نصفين: الأول جعله في الثناء على الشّيخ، والثاني في الانتصار له منّي. فإذا ما رجعنا إلى ما أثنى به على ابن عقيل وجدته أقلّ بكثير ممّا أثنيت به عليه؛ فلا عداوة بيني وبين الشّيخ؛ وكلّ ما في الأمر أنّني مثله، منذ ثلاثين عامًا، متابع ما أمكن لما ينتجه ابن عقيل، ومستفيد منه؛ لكن يبدو من كلامه أنّه انقطع عن المتابعة، فوقع منه ما وقع من خللٍ بيّن في ردّه. لقد عرفت ابن عقيل منذ أن كنت طالبًا في كليّة الهندسة بالرياض عبر مقالاته التي تسنّى لي الاطّلاع عليها آنذاك. وكان سرّ تعلّقي بها غرابتها وعدم فهمها. وكنت بعد ذلك أحرص على المتابعة وأفرح بما أجده فيها من علم نافع في الفكر واللغة والشرع والدين؛ وأعجب ممّا يخالط ذلك من علم غير نافع في الفن والغناء ومداواة المحبين وغير ذلك. وقرأت في تباريحه أو غيرها طريقته في التّوبة من التّدخين فعجبت منها، ولخصتها في كتابي: "تجربتي مع التّدخين من القرية إلى القرية"، فكان أثر ذلك كبيرًا على القراء، بفضل الله تعالى. ذكرت هذا المدخل اليسير، ولن استطرد فيه، ليعلم أحمد ومن معه أنّني لست ببعيد عمّا يُطرح من فكر؛ وأنّ ما أكتبه هو رأي قد يكون صائبًا فيستفاد منه؛ أو غير صائب فيرد بعلمٍ، ولا ضير في ذلك. وقد استطاع ابن عقيل بتوفيق الله، ثم بما بذله من جهد أن يتوب من أمور كثيرة كرهها أشدّ الكره، وسخر منها وممّن يتعلّق بها. وقد أعلن توبته من بعضها منذ سنين ونشرها في كتبه؛ وها هو يعلن توبته من الغناء، ويهجر الملهيات والمغريات الّتي ذكر ما لقيه منها من تضييع وقتٍ، وضيق نفسٍ، وقسوة قلبٍ، وصدٍّ عن ذكر الله. ثمّ يأتي أحمد فيقول: إن في مطالبتي ابن عقيل بالتوبة شيئًا من الفجاجة. فهل طالبته بتوبة؟ أو هو الّذي سار بنفسه في الاتجاه الصحيح؟ وأنت لا تعلم. من منّا يا ترى أقرب إلى ما جاء في مقالك من وصف؟ اسمع، أيّها القارئ، ما قال ابن عقيل في مواجهاته التي لم يقرأها الأخ أحمد أو قرأها ولم يفهمها: "وكانت لي كتابات فنّية معروفة عند الإخوان عن الغناء أستحي من سردها أو التّمثيل لها...". واقرأ تأييده لمن سعى إلى حرق أحد كتبه لما فيه من سوء. وستفهم منه، إذا ما قرأت، تحريم الغناء الشائع بين النّاس اليوم؛ إذ هو ينكر آلاته ومسيقاه وهمزه وغمزه وتجديفه. ها هو يقول: "إنّ ابن حزم أباح الآلات وهذا لا تؤيده الشّريعة". ويقول: "وفي لحظات نادرة أبلى بالاستماع لصوتٍ كنت أحبّه فأجدّد التّوبة والاستغفار". ويقول منكرًا ما كان فيه من لهوٍ وعبث: "لا أعلم أحدًا من أبناء المملكة هوّم مع الغناء، وتناغم معه، وطرب له مثلي"؛ ثمّ ذكر ما أورثه ذلك من مشكلات ومصائب يطول سردها، وأعقب ذلك بذكر فرحه بالقرآن واستماعه له من قرّاء سمّاهم. وانظر إليه في المواجهة الخامسة يصف تجربته السالفة بالخاسئة. وقد وصفها بأشدّ من ذلك في أماكن أخرى. ويقول في مواجهاته: "كنت كبهيمة الأنعام - أعوذ بالله من مثل السوء- يختطف منها الذّئب فترتاع دقائق ثمّ تعود إلى المرعى". وفيها يشير إلى "انحطاط أكثر الوسط الفنّي، واستباحته قبلة الأجنبيّة، وما هو فوق القبلة بدعوى التّمثيل". ثمّ يأتي أحمد فيقول: "أمّا الأفلام والأغاني والموسيقى، انظروا إلى ما كان يعرضه تلفزيوننا حينما كان ابن عقيل يغربل تلك الأفلام لإجازتها فما كان يعرض إلاّ ما هو مفيد ولا يخلو من بعض التّسلية الّتي أنشئ جهاز التلفزيون من أجلها (الفائدة والتّسلية البريئة)...". وأتجاوز إشكالات هذا النّص السّقيم إلى معناه؛ فاقول: سبحان الله العظيم؛ ابن عقيل يبيّن لنا ما يُستباح من حرام بدعوى التّمثيل، وأحمد لا يرى فيما كان يعرض إلاّ الفائدة والتّسلية. أذكر أنّني قرأت له بعض ما لقيه من تلك التّجربة حيث كان يأمر الرّقيب بقصّ مشهدٍ غير لائق فينساه الرّقيب، فيقع في الحرج الشّديد بسببه. ثمّ اسأل ابن عقيل كم من الوقت قضاه في هذا العبث الّذي حمى منه الآخرين ولم يحم منه نفسه؛ بل قد يكون زيّن صورة هؤلاء الممثلين في أعين النّاس وهم على غير ما يرون منهم؛ وكفى بهذا إثمًا مبينًا. ولئن كان غربل تلك الأفلام كما ترى، فقد غربلته هو، فخرج من تلك التجربة ببغضها أشدّ البغض؛ وهذا من حسن حظّه. ثمّ إنّ ما قلته في مقالك فيه باطلٌ كثير. فقد عشتُ الفترة التي تكلّمتَ عنها فما رأيتُ من تمثيلها إلاّ الغثاء؛ كلّها غزلٌ وحبٌّ وهيام، وبحث عن شقّة للسّكنى، في وقت البيوت عندنا خاوية تبحث عمّن يسكنها. وكانت في التمثيليات مشاهد رغم مقصّ أبي عبدالرحمن تحرّك الغدد الجنسيّة- والكلمتين الأخيرتين من عنده؛ عفا الله عنّا وعنه. فكيف تقول ما كان يعرض التّلفزيون إلاّ ما هو مفيد؟ أترى أبا عبدالرحمن يقرّك على هذا؟ قل لي بربّك، بعد هذا البيان، كيف تقول إنّني طالبته بالّتوبة؟ وما المشكلة لو فعلتُ؟ أين متابعتك لفكر الرّجل، وإنصافه. أليس هو الّذي تاب، ولنا الحقّ أن نفرح بتوبته فبه يتأثّر قرّاء كثر. يا لله العجب؛ ابن عقيل يقول: خرجت من الأوزار والأوصاب وأصبحت أسهر مع كتاب الله، وأحكّمه في شؤون حياتي كلّها؛ وهناك من يقول له : عد بنا إلى يا "مسهَّرني" و "حكم علينا الهوى". أمّا طلبي من ابن عقيل أن يغّير اسمه فقد بيّنت سبب ذلك. لقد بذل الشيخ جهدًا كبيرًا في محاولة إقناعنا بأنّه ظاهريٌّ لا ينتمي إلى الظّاهريّة. وهذا أمر لا يستقيم وإن رغبنا في تصديقه. ثمّ إنّه رجلٌ موسوعي المنهج، يأخذ من كلّ المذاهب، ويضرب في كثيرٍ من الحقول المعرفيّة. والإنتماء إلى مذهب يقيّد هذه الموسوعيّة، بل يقلقها ويقلق صاحبها. فنصحته بما قد يختصر له الطّريق؛ فلا تستعجل فقد يروق الأمر لأبي عبدالرحمن؛ أو يوافقني وإن تعذّر التنفيذ. ولتعلم، رعاك الله، أنّني لم أغمز قناة الظاهريّة، كما حاولتَ أن تقول؛ ولكنّي نظرت إليها من خلال ما قاله أبو عبدالرحمن عنها في مواجهاته، فوجدته يأخذ عليها مآخذ، ويتنصّل منها بقوّة. فهل قرأت ما قال، أو كان همّك المشاركة بأي كلام؟. والأخ أحمد يقول في معرض الحديث عن تجارب الشيخ إنّه ما علم عنه إلاّ الخير سابقًا ولاحقًا. وهذا عكس ما يقوله أبو عبدالرحمن عن تجربته فقد بيّن محاسنها، وهي كثيرة؛ وفصّل كثيرًا في غيرها. وما ذاك، فيما يظهر لي، إلاّ لثقته بنفسه ونزاهته من الدّاخل. وقد بيّن مرارًا أنّ أمر العقيدة عنده واضح لا لبس فيه، وإنّما وقع الخلل منه في اللمم أو ما زاد عنه قليلاً. وأعلم أنّ الشيخ ابن عقيل لا يروي ما شان من سيرته مفاخرًا ولا مجاهرًا؛ بل هو يرويها منكرًا لها، وسعيدًا بأن تخلّص منها بجهد ذاتيّ على علم، بتوفيق الله، رغم تشبّثها به. وأعلم أنّه يرويها ليستفيد منها من مرّ بمثلها ليكون له العزم في الخلاص منها؛ وقد يكون له مآرب أخرى لا أعلمها. وهو، فوق ذلك، يرويها بأسلوب شيّق مغرٍ بالمتابعة؛ ولكن من النّاس من لا يعجبه إلاّ صفة الجرأة في الحديث بصرف النّظر عن ما ينشر، فيسعى إلى نشر ما هو أسوأ امتثالاً. ومنهم من يتشجّع فينشر مثلها قبل أن يتوب منها؛ والأسوأ من هؤلاء الغافل الّذي يُفتح له بسببها بابٌ على ما يسوء. وقد خشيت وما زلت أخشى أن يقلده المقلدون في المجاهرة بالسّيرة على اختلافها وتنوّعها فيقع الفساد المحذور منه. فما وجه التّعصّب في هذا؟ إنّ من النّاس من يأتي إلى مسائل يصفها بالخلافيّة أي الّتي تحتمل أكثر من رأي، ولو لم تكن كذلك؛ ثمّ إذا لم تأخذ برأيه فيها وصمك بالتّعصّب؛ أي يصمك بشيء هو فيه أشدّ منك. فإذا كنت ترى أن لا حرج في نشر السيرة بكلّ ما شأن منها وما زان ليعتبر النّاس؛ فإنّي أخالفك وأرى أن ليس لمن تاب من معصية أن يشرح للنّاس ما كان عليه منها قبل التّوبة، فما بالك بمن جاهر وهو لم يتب. وتصوّري أنّه لو جاز هذا، لفُتح على النّاس شرور ومفاسد لا قبل لهم بها. وحاشا الشّيخ ابن عقيل أن يكون ممّن يريد هذا، لما أسلفته من أسباب في هذه المداخلة والسّابقة لها، والله تعالى أعلم. وأنا هنا لا أتي بشيء من عندي وإنّما هو ما فهمته من الدّين. وأهل العلم أولى بتبيين ما أجهله أنا وأنت منه لتستقيم الحياة. وأمّا قولك إنّ مداخلتي وعظيّة أكثر منها علميّة فلا عتب عليك في هذه. ولو افترضنا أنّها وعظيّة، هل تستطيع أن تنفي عنها صفة العلميّة، لأنّها كذلك؟ أما ترى أننا تأثّرنا بغيرنا من الأمم في تصنيف علمٍ نحن أحرى بفهمه وتصنيفه بطريق أمثل؟. آمل أن نقرأ قبل أن نكتب، وإذا كتبنا أن نتحرّى ما يفيد القارئ حتّى لا تذهب أوقاتنا سدى، وأعمالنا هباءً منثورًا. •أستاذ الهندسة المساحيّة – جامعة الملك سعود [email protected]