ابتهجت بفوز عبده خال بجائزة بوكر العربية، هذا الفوز الذي سيلفت النقاد والقراء إلى قراءة عبده خال، وسيفتح للرواية الفائزة و لغيرها من أعماله باب الترجمة إلى لغات أجنبية على نطاق واسع. وليس هذا كله مكسبًا لعبده خال لوحده بل هو مكسب للثقافة والإبداع السردي تحديدًا في المملكة. ويزداد شعوري بالغبطة أن هذه الرواية التي فاز بها عبد خال ليست الأولى ولا الثانية أو الثالثة... في سياق نتاجه الإبداعي، إنها المؤلَّف السادس عشر بعد 12 كتابًا منشورًا (6 مجموعات قصصية و 6 روايات) بالإضافة إلى 3 كتب مخطوطة هي مدونات فولكلورية. ومعنى ذلك أن هذا الفوز يتوِّج جهدًا طويلاً وشاقًا من معاناة الكتابة وقلقها المضني، وكنت أقرأ الخبر وأتأمل إلى جانبه صورة عبده المبتسمة ملء بهجتها، وأقول في نفسي ابتسم كثيرًا وابتهج وليبتسم معك ويبتهج أولئك المعذّبون والمطحونون والبسطاء الذين أفردت لهم مساحة قلبك ورواياتك وأقاصيصك، ولنبتسم نحن معك، ولتبتسم الثقافة الحفية بالمعنى الإنساني في سموه ونبله واتساعه. إن عبده خال قيمة إبداعية وجمالية وقيمة إنسانية. وفي إبداعه دومًا اكتشاف لتلك المناطق الملتبسة التي تقيِّد وجود الكائن وتأسره. وأحيانًا يستحيل أشخاصه إلى خطباء يصدعون بمواعظ ويعلنون نبوءات مفزعة عن المستقبل، أو يملؤون سمع الزمان تحديًا للاضطهاد. ويبدو لي أن بشاعة السوادي في «الموت يمر من هنا» (1991م) التي وجدت حليفها وسندها في الشيخ موسى، والتي ملأت فضاء روايته الأولى تلك، بالعنف والاضطهاد، كانت ذريعة روائية ناجحة لتمرد درويش وتحديه ومن ثم جنونه ومقتله، وهو المعنى الذي بقي مركزيًا في رؤية عبده خال الروائية تقريبًا، ولكن من دون أن نشعر بالتكرار. هذا المعنى يتخذ صفة مأساوية وجودية، بحيث يغدو الكائن كالفأر في القفص، وهو قفص تصنعه الثقافة من حيث هي نتاج قوة بالمعنى السلطوي بكل ممكنات السلطة المعنوية والمادية. ولذلك يبدو قفص الكائن وسجنه أكثر بشاعة وفظاعة حين يكون سجنًا ثقافيًا. فالثقافة هي وعي الكينونة وهو وعي يلغي هذه الكينونة حين يفترق عن الشرط الإنساني بما يتطلبه من ذاتية ورغبة ترتفع به عن مستوى الضرورة والجبرية والقهر. لكن مستوى الضرورة القهرية هذا يبدو بمدلول وجودي، كما نقرأ لدى عبده خال، حيث قهرية المجتمع الذي يندرج فيه الفرد، وهنا تبدو المعضلة. وأتصور أن جملة «الأيام لا تخبئ أحدًا» التي تشكل عنوان روايته الثالثة (2000م) يمكن أن تمثل نواة الدلالة التي تؤلفها رواياته. فالدلالة التي تؤلفها رواياته هي دلالة مضادة للستر والكتمان والتعتيم، وهذه الأخيرة هي لازمة القوة وملزومها حين تأخذ وجهة استحواذية وتسلطية، ومن ثم تغدو فاسدة وملوثة وراسفة في القذارة والوحشية، وبلا ضمير ولا إنسانية ولا عدالة. إنها الظلام بعينه، والظلام هو الضد للنور والحقيقة والمعرفة، والضد للعدالة والإنسانية. وما يعانيه أبطال عبده خال هو فقدان النور بمعانيه هذه التي ترتفع بالوجود الإنساني إلى مستوى شرطه المسؤول. إن درويش البائس وعبيد السوادي في «الموت يمر من هنا» الذين يرسفون في قيد غاشم وبلا قلب، هم يحيى الغريب في «مدن تأكل العشب» (1998م) أمام عنف الفقر والبطش والاغتراب وأمام تجار العبيد، وهم الوجه الآخر لمأساة جليلة في «فسوق» (2005م) التي تعيش في مجتمع يمزق كل معنى للذاتية الفردية، فتستحيل سياط السوادي هنا إلى النميمة وسوء الظن الذي يبدو الحي كله بل المدينة بأسرها في الرواية فاقدة بوساوسه المعقوليةَ والاستواء. وعيّاش في «نباح» (2004م) وقد ذبل عمره في الغربة والعمل يلخص مأساته الوجودية ويقول: «بلدكم حظيرة كبيرة تربي العجول لتذبحها بهذا الملل... لا شيء فيها سوى العمل أو الموت!». وهذه هي المعاني نفسها التي يصل إليها في «الطين» (2002م) الدكتور حسين مشرف في علاقته بمريضِه الذي يريه في عز الشمس أنه بلا ظل! هكذا ينهض عبده خال في رواياته بمهمة الرسم لهذه المعاني من خلال محفزات سردية تبررها وتقنع بها، وهي محفزات تحيل على الواقع وتترصده. ولهذا كانت روايته الفائزة «ترمي بشرر..» (2009م) حافة قصيَّة من الانفجار في شكل بوح ذاتي يتولاه راويها بضمير المتكلم، والمروي فيها هي عبوديته للسَّيِّد الذي يملك الثروة والنفوذ، ويستحيل إلى مجاز القوة التي تتمثل في كل سلطة. ومجازية السلطة تلك هي نفسها كناية الفساد الذي يتبادل مع الكتمان علاقة اللزوم، وعلينا أن نضع أيدينا على أفواهنا أمام بوح الراوي لما يحتويه من فظاعة، وما يكشفه من الوحشية والقهر وانعدام الضمير. والبوح والكشف اللذان يجسدهما راو ذاتي، أي يروي بضمير المتكلم، خاصيةٌ مشتركة بين معظم روايات عبده خال. وهذا يعني التمثيل بعلاقة بين الراوي وما يروي تندرج في نوع الشهادة أو الاعتراف أو التعبير، وهي درجة عالية في تجسيد الصدقية والإيهام بالإقناع، ومستوى وعيٍ يتداعى إلى دلالة التطهر بالمعنى السيكولوجي حيث العلاج بالبوح والقص والكلام عن الذات، وبالمعنى الديني حيث الاعتراف والشهادة طلبًا للغفران وإعلانًا للحق الذي يستحيل الساكت عنه إلى «شيطان أخرس». والمسألة تتصل من وجه آخر بفعل الكتابة والتجسد الفكري، إنها تمثيل لعلاقة الكاتب الباحث والمفكِّر بمختبره الفكري الذي يخلق فيه أفكاره وفلسفته ويعاني حيرتها وجدلها وأسئلتها القلقة. ولذلك يتضاءل دور البطولة بالمعنى التقليدي، فليس في معظم روايات عبده خال، شخصية محورية متميزة في علاقتها بالشخصيات الأخرى، وغالبًا ما تتمثل الشخصية المحورية لديه في الأنا الساردة التي تسرد الأحداث وتكون موضوعها. وهذا ملمح حديث في رواياته، يترافق مع غياب بعض الحبكة أحيانًا بانتفاء السببية، و تضمنها أحيانًا لأفعال عجائبية مثل العودة من الموت و انعدام ظل المريض في رواية «الطين» وهروب جليلة من قبرها، في «فسوق»... إلخ. ويضاف إلى ذلك اعتماد مواد سردية جديدة مثل المدونات والمذكرات والرسائل والردود والأغاني والصور والرسومات و ومحاضر التحقيق التي تم تثبيتها في ملف القضية. واستخدامها من جهة أخرى لتوضيح طبقات السرد وفواصل الفصول والوحدات، وأحيانًا تأتي هذه الفواصل في شكل مقولات تجريدية وحِكَمِية لشخصيات الرواية. أما بلاغة عبده خال اللغوية فطاقة خلاقة للصور والصيغ التي تولِّد معاني ذات رؤيا وكشف وإدهاش من طراز فريد. وهي طاقة يجد فيها بعض قرائه أحيانًا نبرة استعراض تفضي إلى المجانية والحشو والإسهاب، وقد يبدو حجم رواياته الكبير دائمًا بابًا لاستدلالهم على ذلك. لكن الأكثر أهمية هي بثور أخطاء اللغة التي تشيع إجمالاً في الرواية السعودية، ولقد كنت أجلس إلى أحد الزملاء الأكاديميين المعروفين في المشهد الثقافي بعد إعلان الفائز بالبوكر، فذكر لي أنه كلما فتح رواية فرأى أخطاء اللغة عافت نفسه الاستمرار في قراءتها. وأعتقد أن المشكلة هنا هي في تردي صناعة النشر وتجاريتها، فليس بعض الروائيين المعروفين في الساحة العربية أكثر معرفة وإتقانًا للنحو والصرف من عبده خال، وكل دار نشر أصيلة تحتوي جهاز تحرير يراجع مسودة منشوراتها. أبارك لعبده خال مجددًا، وأبارك لبلدنا عبقرية إبداعية في مستواه.