هو حدث غير عادي وسابقة قد لا تتكرر أن يستقبل مجلس الشيوخ الفرنسي ويسمح لضيف ليس برئيس دولة أن يقتحم عرينه الأغر ويلقي مقالة على أسماع أعضائه إلا إذا تأكد لهذا المحفل أن الضيف وما يحمله يمثلان قيمة مضافة للعلم والثقافة والأدب، ومثال للتقارب والحوار الحضاري بين الشعوب، وهذا بحسب علمي ما قد ميز ويميز باريس وينصبها عاصمة للنور وثلاثية الفكر الدستوري المعاصر وركائزه الحرية والإخاء والمساواة. ان الزيارة التي قام بها أمير منطقة مكةالمكرمة حفظه الله إلى باريس وكلمته التي ألقاها أمام مجلس الشيوخ هي ليست فقط مفاجأة بحد ذاتها بقدر ما هي انجاز وطني يعود الفضل فيه لخادم الحرمين الشريفين بفضل مبادرة منه حفظه الله عبر إطلاقه ورعايته لحوار الحضارات ولشخصية تألق فيها سمو الأدب والثقافة في شخص صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، رجل لا يخفي أبداً أنه يبحث عن الانجازات الهامة والأدوار الريادية خاصة في مسار الفكر والثقافة والتقدم الحضاري والتمدن العصري لرفعة شأن أمته بين الأمم. إن صياغة كلمات هذا الخطاب بلغة قوية سلسة وبكلمات معبرة واضحة وإيجاز لغوي مهني ضليع أضفى عليها نوعاً من الإعجاز البلاغي والخطابة المؤثرة الهادفة والتي جعلت منها تحفة أدبية مهنية رائعة لا أظن التحضيرَ لها تم بين يوم وليلة بل إنه نتاج مخاض فكري وحوار ثقافي صامت طويل بين الأمير وذاته مما يعطيها ألقاً قوياً وإبداعاً متميزاً، يقدر قيمتها ثقافياً كل ضليع، أضف إلى ذلك أنها اتخذت من سلاستها وبساطة طرحها طريقة حصيفة منها تصل إلى أهدافها المرجوة الواضحة وضوح الشمس دون لبس أو مواربة. إن الجديد في هذه الكلمة الثمينة أنها تنتهج مبدأً فيه لغة المخاطبة قائمة على مبادئ وأسس يفهمها الغرب المتحضر ويجلها ويحترمها حتى لو كان له تحفظ على أجزاء منها، وهذا ما تمثله ثقافة الحوار وهي تنحي المشاعر والعواطف بعيداً وتأخذ بمبادئ العدل للحق والمساواة وتحكم الأمور بمنطق العقل والحكمة وتحترم مشاعر الآخر وتصدق معه، إنها إحدى المرات النادرة التي يستطيع فيها الخطيب وعبر إيجاز فائق الدقة أن يوجز فينجز بالكامل ما جاء يعرضه من إرساء معالم وأسس واضحة للحوار والإقناع البناء مستخدماً المقارنة والقياس مستشهداً بالتسلسل الحضاري والإرث الديني والمبادئ السماوية عبر الأديان الثلاثة.. ليس هنالك إعجاز أعظم من أن تجرَّ أسماع أساطين الحضارة والفكر والثقافة إلى نقطة المساواة متمثلة في الإخاء الإنساني. إن عنصر المفاجأة في كلمة الأمير خالد الفيصل هو أنه لم يعرف بأمرها أو يطلع عليها أو يسمع بها قبل طرحها أحد من الوسط الإعلامي المختص حسبما فهمت، مما يجعل منها أنموذجاً جميلاً رصيناً يضفي عليها مجال الجدية ووقار العمل الصامت الجاد الناجح عملاً بالحديث الشريف (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان). بعد أن ألقى الخطاب وبلهجة يفهمها الغرب ووضحت الرسالة فإن هناك واجباً على الصحافة والإعلام أن تستطيع مواكبة نجاح هذا العمل بنجاح إعلامي مميز لا على المستوى المحلى وحسب بل على المستوى العالمي حتى يكون مؤثراً في الضفة المقابلة من طاولة حوار الحضارات، كما يجب أن نستثمر الركائز والأسس التي نوه بها خطاب أمير مكة على المستوى الإعلامي الدولي لا باللغة العربية وحسب كما تعودنا أن نفعل بل بلغات أقوام نحن بحاجة أن يفهموا مطالبنا ورأينا وثقافتنا وتوجهنا. وأنا أستشهد اليوم بقناة روسيا اليوم لعمري أنها استطاعت أن تمسح صورة روسيا السوفيتية المتعثرة لتشرق منها صورة روسيا الحضارة روسيا المبدعة صناعياً وفنياً وأدبياً وثقافياً وتراثياً وعبر لغتنا العربية استطاعت أن تكسب تعاطف وحب الشارع العربي وترسخ في أذهان مشاهديها العرب صورة روسيا التقدم والحضارة والانفتاح. بوركت يابن فيصل وحفظ الله ولاة أمرنا وسدد خطى الجميع لما فيه الخير والله المستعان.